العنصرية في العفولة والعادات والتقاليد

المظاهرات العنصرية في العفولة ليست جديدة، وهي تحدث عندما يقوم شبان فلسطينيون بالإعتداء على مواطن أو جندي إسرائيلي لأسباب وطنية في دوافعها. الشيء الملفت للنظر هذه المرة أن المظاهرة العنصرية الأخيرة توجهت باتجاه مبنى البلدية والمتهم الأول كان رئيس البلدية الذي تمت محاصرته في المبنى واضطر إلى الإستنجاد بالشرطة خوفا على سلامته. والسبب فريد من نوعه هذه المرة ويتعلق بفوز عائلات عربية من القرى المحيطة بالمدينة بمناقصة لشراء قسائم للبناء. وقد عرضت “دائرة أراضي إسرائيل” 27 قسيمة للبيع من أجل بناء 43 وحدة سكنية وقد تقدم 305 عروض أغلبيتهم من اليهود إلّا أن كل الذين فازوا في المناقصة هم من العرب لأنهم قدموا السعر الأعلى الذي وصل في المعدل إلى 150,000 دولار لقسيمة مساحتها 600 متر مربع.

والسؤال المثير هو كيف تم ذلك؟ كيف انقلبت الآية في المدينة اليهودية التي تأسست في سنة 1925 على أراضي مرج ابن عامر والتي باعها آل سرسق البيروتيون للمؤسسات الصهيونية آنذاك وها هم العرب أبناء قرى المرج يفوزون بمناقصة و”ينتزعون” الأرض المصادرة منذ مائة عام؟ جواب رئيس بلدية العفولة ايتسيك ميرون كان واضحاً: “إن العطاء نفذته دائرة اراضي اسرائيل وهذه دولة ديمقراطية ويحق لأي كان التقدم للفوز بالعطاء ولا سبيل لمنع ذلك ، وتبقى العفولة ذات أغلبية يهودية مطلقة”.

من خلال هذه الجملة البسيطة نكشف طبيعة الدولة اليهودية التي تعاني من انفصام الشخصية. فهي ديموقراطية، مثلما أشار رئيس البلدية، ولكنها يهودية أو بمعنى آخر عنصرية لأنها تسعى للحفاظ على أغلبية يهودية مطلقة. إن للديموقراطية الإسرائيلية حدودها الواضحة. وهكذا يسلك المواطنون العرب طريقهم بين الديمقراطية والعنصرية في الوقت الذي تحاول الدولة أن تساوي بين مبدأين لا يمكن الجمع بينهما – الطابع الديني الطائفي من ناحية والطابع الديمقراطي من ناحية أخرى.

السؤال المثير الثاني والذي أثار عواطف السكان اليهود وربما الغيرة هو كيفية تفسير أن من بين 305 عرضاً قدمت في المناقصة فاز بجميعها العرب فقط؟ الجواب بسيط، العرب قدموا الأسعار الأعلى وهم يعرفون أنه ما من يهودي مستعد لأن يدفع هذا المبلغ على قسيمة أرض من هذا النوع في مكان بعيد عن المناطق الأكثر مطلوبة للإسكان في المدينة. ومع ذلك فإنه من الواضح أيضاً أن من تقدم بهذه الأسعار المرتفعة وهي تصل إلى 150,000 دولار للقسيمة هم من العرب أصحاب المهن الحرة من مهندسين وأطباء ومحامين ومحاسبين الذين يشكلون الطبقة الوسطى المثقفة في المجتمع العربي. أما مدينة العفولة اليهودية فهي في أدنى السلم الإجتماعي الإقتصادي في إسرائيل مما يعني أن الطبقة الوسطى العربية هي في حالة أفضل من أغلبية السكان اليهود في العفولة من أصل شرقي. ومثلما نرى ظاهرة العنصرية ضد المهاجرين العرب في أوروبا في مناطق تسود فيها البطالة والفقر فها نحن أمام ظاهرة شبيهة غير أن المواطن العربي ليس مهاجراً بل صاحب الأرض الأصلي.

ويوجد سؤال ثالث ليس أقل إثارة؟ لماذا يفضل هؤلاء العرب المثقفون ترك القرية العربية والانتقال إلى المدينة اليهودية وهم غير مرغوب بهم فيها؟ هل السبب وطني أم سياسي؟ هل يريدون استرجاع الأراضي الفلسطينية التي تم نهبها من قبل الحركة الصهيونية قبل 90 سنة؟ الجواب الأكيد هو كلا، فمثلما أكد أحد الفائزين في المناقصة المحامي عبد الله زعبي من قرية الدحي في مقابلة تلفزيونية، فكل ما يريدون هو جودة الحياة، خدامات متطورة، دورات للأولاد، طرق سالكة وآمنة. ومن أجل توضيح موقفه قال: إذا عرضت عليه قسيمة أرض في مدينة الناصرة العربية أو في العفولة فإنه سيختار العفولة لأن سكة الحديد تصل اليها ومن الممكن أن يبعث أولاده إلى الجامعة في تل أبيب أو معهد التخنيون في حيفا دون أن يضطر لإستئجار شقة للطلاب هناك. وعاد وأكد بأن لا مآرب سياسية أو قومية وراء هذه الخطوة بل السبب هو تحسين جودة حياته فقط وأن انتقاله إلى العفولة سيكون لصالح كل السكان فيها.

ولكن يوجد سبب خفي لا تتم مناقشته بصراحة، وهو أن هؤلاء المثقفين العرب وهم يتكاثرون مع الوقت ليسوا سوى لاجئين يهربون من قراهم لينقذوا أنفسهم من “الإرهاب” السائد في المجتمع العربي. وإذا كان صحيح أن القرية العربية تعاني من سياسة عنصرية تجاهها، وخدماتها متدنية بسبب التمييز الحكومي، وهي تقع في أدنى السلم الإجتماعي الإقتصادي في إسرائيل ونسبة الفقر فيها مرتفعة، إلّا أنها إضافة إلى ذلك تعاني التجمعات العربية من العنف المتفشي والذي حول حياة الناس إلى غير آمنة وأجبرت من بإمكانه أن ينقذ نفسه على الإنتقال إلى المدينة اليهودية، ليس لإنقاذ الأرض كما قال صراحة المحامي عبد الله الزعبي بل لأن الحياة أصبحت جحيماً في القرى العربية. إن حوادث إطلاق النار، القتل، تصفية النساء، والعنف كطريقة لتسوية الخلافات أصبحت شيئاً عادياً وروتينياً.

وقد فسر الشيخ إبراهيم صرصور الرئيس السابق للحركة الإسلامية أسباب العنف: “تَغَوُّل ثقافة الإستهلاك، وانطلاق الغرائز ، وانطفاء الإحساس بالغيرة ، والتمرد على الأخلاق ، والإنقلاب على الآداب العامة ، وقلب الطاولة في وجه عاداتنا الجميلة وتقاليدنا الحميدة ، حتى ما عاد للحشمة معنى، ولا للحياء مكان، ولا للضوابط الفطرية وجود … لا للأب احترام، ولا للأم قول أو رأي، ولا للأسرة مكان”. (نشر في موقع “العرب” 18/11)  ويعرض الشيخ إبراهيم الحل السحري كالمعتاد وهو ” الرجوع به إلى أصول الإسلام وقواعد الدين ومقاصد الشريعة، وإدراك حقيقتها والغايات السامية منها “. وكأن الحركة الإسلامية لا تسيطر على المجتمع العربي وليس لها أية مسؤولية على ما يحدث من عنف هناك وتحديدا ضد المرأة.

ما نتعلمه من حادث العفولة هو أن المثقف العربي يبتعد عن “عادتنا الجميلة وتقاليدنا الحميدة” ويفضل ثقافة “الإستهلاك” التي ليست سوى كلمة رديفة للعصرنة لأنه يعرف بأن المجتمع الأبوي والتقاليد القديمة ليست ملائمة للواقع المعاصر بل تضيق عليه حياته، حريته الشخصية، وإمكانية أن تعيش المرأة مثلما تريد بعيداً عن رقابة المجتمع المحافظ وبالتالي التمتع بحياة حرة آمنة. يتضح إذن أن هذه العادات والتقاليد هي عقبة أمام التطور الإقتصادي والإجتماعي، وإذا كانت الدولة اليهودية تتحمل المسؤولية عن سياسة التمييز إلّا أن القيادات العربية نفسها تتحمل الجزء الأكبر من المسؤولية عن تدهور الوضع في الشارع العربي. فرئيس المجلس ليس ينتخب على أساس كفاءات بل على أساس انتمائه العائلي، ومدير المدرسة ليس الأكثر تأهيلاً للمنصب بل المقرب من الرئيس، ومن يقرر هو رئيس العائلة وليس الفرد الذي لا قيمة له إلّا بقدر ما يحافظ على هذا الإنتماء العائلي.

إن حادث العفولة يعبر عن كارثة حقيقية، فهو يدل على أن الشريحة المثقفة التي تقود المجتمع والتي بدلت الجيل القديم لم تجلب معها التطور بل استغلت العادات والتقاليد من أجل الحصول على المناصب دون أن تعمل على تغيير إجتماعي حقيقي يتماشى مع أصول المجتمع العصري “الإستهلاكي”. واليوم يجني المجتمع العربي ثمار هذه السياسة الفاسدة التي أدت إلى تفسخ المجتمع وفقدان الثقة بالقيادة. إن ما يقوم به هؤلاء المثقفون الذين ينتقلون إلى المدينة اليهودية هو بمثابة الهروب من المسؤولية، ففي حال فرغت القرى العربية من شرائحها المثقفة والقوية سيبقى فيها الفقر والإجرام فقط. إن دور الطبقة المثقفة هو مواجهة الوباء من خلال تشخيص الأسباب الحقيقية التي أدت إلى الوضع الذي نحن فيه والمباشرة بثورة إجتماعية حقيقة تنقل المجتمع العربي إلى القرن ال21 وهو الضمان الوحيد للحصول على كامل الحقوق والمساواة في دولة تحاول عبثاً أن تساوي بين طبيعتها اليهودية والنظام الديموقراطي.

عن