دعت حركة “بدنا نعيش” الفلسطينية إلى اعتصام في مدينة الخليل على خلفية غلاء الأسعار في مناطق السلطة الفلسطينية لمطالبة الحكومة بالعمل على تخفيض الضرائب على السلع الاستهلاكية الأساسية والوقود. ورغم حصول منظمي الاعتصام على تصريح من قبل السلطة، ولكن كالعادة قامت الشرطة الفلسطينية بفض الاعتصام واعتقال عدد من الناشطين.
لا شك أن ارتفاع الأسعار ليس ظاهرة محلية، بل عالمية بطبيعتها وأسبابها جائحة كورونا التي عطلت الإنتاج في الصين من ناحية، والحرب في أوكرانيا التي أدت إلى ارتفاع حاد في أسعار النفط والزيت والحبوب. ومن الطبيعي بأن المعاناة بسبب ارتفاع سعر السلع الأساسية والوقود ستكون أعمق وأخطر في الدول ذات الاقتصاد الضعيف وغير المتطور مثل الاقتصاد الفلسطيني. من هنا جاء الاحتجاج ومطالبة الحكومة كي تعمل على التخفيف عن كاهل المواطنين الذين ليس بمقدورهم توفير أبسط احتياجاتهم الحياتية.
إلا أن تعليق الآمال والتوجه إلى السلطة الفلسطينية كعنوان رئيسي لمعالجة الأزمة الاقتصادية ومطالبتها التدخل من أجل خفض الأسعار سينتهي بالضرورة بالفشل. وسبق أن وافقت حكومة محمد اشتية على المطالب نفسها من قبل الحراك الشعبي في شباط/فبراير المنصرم، ولكن الوعود بقيت مثل كل وعود السلطة الفلسطينية، حبراً على ورق. لأن من يقرر مصير الاقتصاد الفلسطيني ليس السلطة الفلسطينية، بل وزارة المالية الإسرائيلية وهذا ليس خافياً على أحد لا في إسرائيل ولا في الضفة الغربية وغزة.
هذا العطب في الاقتصاد الفلسطيني حالة قائمة وستبقى كذلك طالما يبقى مرهوناً بنظام التبعية التامة للاقتصاد الإسرائيلي، بموجب “بروتوكول باريس” أحد ملحقات اتفاقيات أوسلو عام 1994، الذي ربط الاقتصاد الفلسطيني بإسرائيل ارتباطاً عضوياً. ولم يكن من الصدفة أن أحد مطالب الحراك الجديد (بدنا نعيش) هو “التخلص من اتفاق باريس الاقتصادي مع الجانب الإسرائيلي الذي يمثل سيفاً مصلتاً على رقاب الشعب الفلسطيني”. هذا المطلب يكشف هشاشة الحراك لأنه رغم طبيعته المطلبية بخفض الضرائب والقضاء على الفساد داخل السلطة، إلا أن “التخلص من اتفاق باريس” هو مطلب سياسي بامتياز ويفترض التخلص من اتفاق أوسلو وبالتالي نسف شرعية وجود السلطة الفلسطينية.
يتعامل الحراك مع حكومة السلطة الفلسطينية وكأنها “دولة ذات سيادة” وهذا بعيد عن الواقع، بل هو وهم بكل معنى الكلمة. فرغم تسميتها “دولة فلسطين” ووجود مؤسسات شبه سيادية إلا أن السلطة في الواقع لا تعدو كونها مجرد جهاز تابع تماماً لإسرائيل التي تفصل الأمر في كل صغيرة وكبيرة. وبخصوص القضايا الاقتصادية لا توجد حدود جمركية بين مناطق السلطة الفلسطينية وإسرائيل مما يعني أن الجانبين يشكلان وحدة ضريبية واحدة. كما أن الشيكل هو العملة الرسمية في المناطق الفلسطينية ما يعني أن من يقرر استقرار العملة ونسبة الفائدة هو بنك إسرائيل المركزي وليست “سلطة النقد الفلسطينية” التي لا سلطة سيادية لها على الإطلاق. ومن هنا فليس من صلاحية حكومة السلطة الفلسطينية القرار بتحديد نسبة الضرائب. في حين أن القيمة المضافة بالنسبة 16% تقررها السلطة على ضوء ما تمليه عليها وزارة المالية الإسرائيلية مثلها مثل نسبة ما يسمى “ضريبة البلو” على المحروقات. والسبب هنا بسيط جدا، لمنع تهريب الوقود أو البضائع إلى إسرائيل بسبب الفرق في الأسعار.
إن تبعية الاقتصاد الفلسطيني لا تختصر على النظام الضريبي والمصرفي فقط، بل يضاف إليها ما يسمى بـ “أموال المقاصة”، وهي الضرائب التي تجبيها إسرائيل من خلال استيراد البضائع عبر الموانئ الإسرائيلية وكذلك ما يدفعه العاملين في إسرائيل في قطاع البناء بالأساس، وتعتبر من إيرادات السلطة تحصل عليها من إسرائيل. وتشكل “أموال المقاصة”، التي تبلغ نحو 5 مليار دولار سنوياً، ركناً أساسياً في الاقتصاد الفلسطيني ناهيك عن أن نسبة 80% من الصادرات الفلسطينية يتم بيعها في إسرائيل.
إذا أخذنا بعين الاعتبار، عدم وجود حدود جمركية إضافة لخضوع حركة النقل للأفراد والبضائع لتصاريح إسرائيلية هذا يعني أن مناطق السلطة الفلسطينية أصبحت سجناً كبيراً لكل مواطن لا يتمكن من الحصول على تصريح الدخول لإسرائيل أو إلى مجرد فندق كبير للعمال الذين ينتقلون يومياً من بيوتهم في الضفة الغربية وغزة إلى ورشات العمل داخل إسرائيل.
إذا أراد الحراك الجديد أن يعيش عليه أن يبحث عن حل جذري للحالة غير الطبيعية التي تشكلت على مدار 30 سنة الأخيرة. وبالنظر إلى هذا التداخل الاقتصادي هناك تساؤلات تطرح نفسها، كيف ممكن قبول أن يتقاضى العامل فلسطيني في مناطق السلطة 1850 شيكل كحد أدنى للأجور بينما في إسرائيل يصل الحد الأدنى للأجر 5300 شيكل؟ وكيف ممكن قبول أن يدفع العامل فلسطيني 2500 شيكل للسماسرة مقابل الحصول على تصريح العمل؟ وكيف يمكن قبول النقص بالبنى التحتية كالسكن والمياه والصحة والتعليم والمواصلات والاكتفاء بطلب لخفض الضرائب في الوقت الذي السلطة الفلسطينية عاجزة عن دفع المعاشات لموظفيها وليست لها استقلالية قرار بكل ما يتعلق بالسياسة الضريبية؟ إن المشكلة ليست في سعر الخبز والسولار، بل الحياة في ظل نظام فاسد قمعي، وتحت سيطرة مطلقة من قبل الاحتلال الذي يتستر وراء السلطة الفلسطينية التابعة له في كل التفاصيل.
إن الاستنتاج الوحيد من الحالة الاقتصادية السائدة في المناطق الفلسطينية بعد ثلاثة عقود، هو واحد ووحيد: برنامج الدولة الفلسطينية تقادم عليه الزمن ليس بسبب رفض إسرائيل لمثل هذه الدولة، بل لأنه لا توجد مقومات سياسية ومؤسساتية واقتصادية لإقامة مثل هذه الدولة. عندما يصل الناتج الإجمالي الفلسطيني للفرد إلى 2500 دولار مقابل 45000 دولار في إسرائيل فالاستنتاج الطبيعي يقول بإن لا أفق لبناء دولة لا اقتصاد لها ولا حكم مؤهل لها.
إننا أمام وحدة اقتصادية واحدة منقسمة إلى نظامين سياسيين مختلفين، نظام ديمقراطي متطور في إسرائيل، وحكم ذاتي فلسطيني خاضع للحكم العسكري الإسرائيلي، وفق منظومتين قانونيتين مختلفتين بما يعرف نظام الفصل العنصري “أبرتهايد”. إن كلمة “عيش” تعني الحرية وحق الانتخاب وحق التعبير الحر عن الرأي وحق التنظيم النقابي والأهلي والحق لكل ما يضمن مستلزمات الحياة ولا يمكن الفصل بين الخبز – العيش – والديمقراطية والحق بحياة حرة وليس تحت قوانين احتلالية ونظام فاسد وقمعي.
إن الطريقة التي تتعامل بها السلطة الفلسطينية مع كل مبادرة احتجاجية، بالقمع والاعتقال لكل من يتجرأ على رفع صوته ضد الظلم، تدل على خوفها من غضب الجماهير، وأنها سلطة هشة قابلة للسقوط في أي لحظة لأنها مؤسسة فاشلة. إن السؤال هو، ماذا بعد؟ هل ستتحول مناطق السلطة الفلسطينية إلى ساحة اقتتال داخلي على السلطة أو نرى حركة مدنية ديمقراطية ترفع صوتها على أساس برنامج سياسي واضح وحلول جذرية. ولا بد من مواجهة الواقع والاعتراف بأن برنامج الدولة الفلسطينية قد انتهى وليس سوى طرح الحل الواقعي الذي يتماشى مع الواقع الاقتصادي الحالي وهو برنامج الدولة الواحدة على أساس المساواة بين الفلسطينيين والإسرائيليين.
هناك من يتذرع بأن برنامج الدولة الواحدة ليس واقعياً كون الإسرائيليين عمرهم لن يقبلوا تقاسم ثروات البلد مع الفلسطينيين أو يقبلوا المساواة بين الشعبين. إلا أن من يتابع ما يحدث في إسرائيل من انشقاق بين قوى يمينية فاشية وبين القوى الليبرالية يعرف أن المجتمع الإسرائيلي ليس متجانساً، بل متنوع الاتجاهات.
إن وجود السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية وسلطة حماس في غزة هو أمر من شأنه تكريس الاعتقاد بعدم وجود شريك فلسطيني، لكون هاتين السلطتين تعتبران نموذجاً سيئاً يشبه الأنظمة العربية المجاورة. ولكن نشوء تيار ديمقراطي فلسطيني ليبرالي يطالب بحل النزاع الإسرائيلي الفلسطيني على أساس المساواة والشراكة بالمبادئ الديمقراطية سيحظى بتفاهم دولي وسيضع المجتمع الإسرائيلي أمام معادلة جديدة: إما الحياة بنظام فاشي عنصري والاستمرار بالصراع الدموي أو الوصول إلى سلام على أسس مشتركة تدعم الديمقراطية وتنبذ كل أنواع التطرف القومي والديني من الطرفين.
اترك تعليقاً
يجب أنت تكون مسجل الدخول لتضيف تعليقاً.