يأتي إعلان الإدارة الأمريكية بمنح الشرعية للإستيطان الإسرائيلي في الضفة الغربية كخطوة تكميلية لما قامت به إدارة ترامب من خطوات تجاه الفلسطينيين خلال السنوات الأخيرة. وتعتبر صفقة القرن الإطار بل والغطاء السياسي لفرض الحل حسب المقاس الصهيوني على الشعب الفلسطيني. وقد اختتم هذا الإعلان الخطوات السابقة التي تتعلق بمجملها بالقضايا العالقة والتي تم تأجيلها في حينه مع توقيع إتفاق أوسلو واعتبارها “قضايا الحل النهائي” وهي مستقبل القدس، والحدود واللاجئين والإستيطان.
فقد قام ترامب بكل الخطوات اللازمة لإزالة هذه “العقبات” العالقة عبر إجراءات أحادية الجانب. فقد أوقف التمويل لوكالة غوث اللاجئين الفلسطينيين التابعة للأمم المتحدة (الانروا) وقام بنقل السفارة الامريكية الى القدس، وجاء قراره الإعتراف بشرعية الإستيطان مكملا لهذا النهج. الهدف هنا واضح – إزالة اية عقبة من اليوم وصاعدًا على طريق الحل النهائي بين إسرائيل والفلسطينيين.
وكان رد السلطة الفلسطينية على هذه الخطوات، التي تدفن والى الإبد مشروع الدولة الوطنية، مقاطعة ادارة ترامب. غير انه وعلى أرض الواقع استمرت بنفس النهج تجاه الإحتلال الإسرائيلي بكل ما يتعلق التنسيق الأمني، وقبول أموال “المقاصة” رغم خصم إسرائيل للمبلغ الذي تخصصه السلطة لذوي عائلات الشهداء، كذلك استمرت العلاقة العادية مع كل الدوائر الحكومية الإسرائيلية التي حوّلت السلطة الفلسطينية الى مقاول فرعي للإحتلال.
ان خطوات ترامب السياسية لم تزعزع الوضع الأمني، وكانت مثابة هدية لنتانياهو إذ أنها أزاحت القضية الفلسطينية عن الاجندة السياسية في إسرائيل حتى ان أحدا لم يتجرأ على رفع القضية الفلسطينية ابان حملة الانتخابات للكنيست لا من يهود ولا من عرب. وقد أصبح الإستيطان موضع إجماع في إسرائيل حتى ورئيس المعارضة بيني غانتس رحب بتصريح مايك بومبيو حول شرعية الإستيطان، مما يعني ان لا توجد في إسرائيل قوة سياسية تدعم حل الدولتين سوى كتلة ميرتس.
وجاءت عملية الإغتيال لقائد الجهاد الإسلامي في شمال غزة بهاء أبو العطا والحرب المتبادلة بين إسرائيل والجهاد الإسلامي في نفس الوقت امتنعت به حماس عن الدخول في المعركة، كدليل إضافي بل قوي بان القضية الفلسطينية كمشروع وطني شامل قد وصلت الى نهايتها. فقد أثبتت حركة حماس انها شريك امين في الوصول الى اتفاق هدنة بينها وبين إسرائيل وهي مستعدة مثلها مثل السلطة الفلسطينية لحفظ الأمن الإسرائيلي مقابل تسهيلات إقتصادية بوساطة مصرية وتمويل قطري. وقد خلقت إسرائيل شريكين متنافسين بينهما للوصول الى تسوية سياسية تضمن لكلهما السيطرة على الضفة الغربية من ناحية وغزة من ناحية أخرى. وقد لا تبالي إسرائيل اذا ارادت حماس ان تسمي غزة “دولة” لكي تتملص من التزامها بإقامة دولة فلسطينية ذات سيادة تشمل الضفة الغربية وغزة.
في الحقيقة الحرب الأخيرة مع الجهاد الإسلامي إعتبرتها إسرائيل جزءًا من حربها ضد إيران، حيث تزامن الهجوم على قيادات وقواعد الجهاد في غزة مع محاولة تصفية قيادي الجهاد المقيم في دمشق اكرم العجوري وهو المنسق من طرف المنظمة الفلسطينية مع فيلق القدس الإيراني بقيادة قاسم سليماني. وقد أصبحت إيران العدو الرئيسي لإسرائيل والخطر الإستراتيجي الكبير في الوقت ذاته أصبحت القضية الفلسطينية شأن داخلي او بكلام اخر مشكلة فرعية التي من الممكن علاجها عن طريق استخدام القوة عند اللزوم والتسهيلات الإقتصادية كتعويض عن حسن السلوك. وإذا لاقت إسرائيل الدعم الامريكي الكامل لمواقفها تجاه الفلسطينيين فبكل ما يتعلق بإيران تبقى إسرائيل وحدها بعد ان إتضح ان ترامب يريد الوصول الى إتفاق مع النظام الإيراني والعقوبات الاقتصادية الصارمة المطبقة على إيران لا تهدف تغييره او إسقاطه بل إجباره على قبول الشروط الامريكية والوصول مع ترامب الى صفقة تسمح للرئيس الأمريكي من الظهور كمنتصر أمام قاعدته الإنتخابية.
ومن هنا يتبين بان ترامب مستعد ان يضحي بالفلسطينيين ويعوض إسرائيل عبر الإعلان عن خطوات لها صفة رمزية بالأساس ودون ترجمة عملية وكل ذلك يحدث في الوقت الذي ينسحب به ترامب من الشرق الأوسط ليسلمه الى صديقه وشريكه فلاديمير بوتين. ففي الوقت الذي يسلم مصالح الاكراد في شمال سوريا لأيدي الرئيس التركي اردوغان وينتقل الشمال السوري لروسيا، فهو يسلم القضية الفلسطينية ليد إسرائيل لتعمل بها ما تشاء. ما نراه هنا ان أمريكا ترفع يدها عن الشرق الأوسط الذي كلفها الاف الجنود القتلى وتريليون دولار التي تبخرت في صحراء العراق لكي تتناحر القبائل فيما بينها وهو يعتقد ان الصراع بين السنة والشيعة وبين الاتراك والأكراد كما الصراع الإسرائيلي الفلسطيني هي جميعها صراعات لا حل لها. ومن هنا فالخطوة الأخيرة تبقى إسرائيل لوحدها امام 5 مليون فلسطيني تحت الإحتلال مجردين من أبسط الحقوق، ولكن وبالمقابل تبقى لوحدها امام ايران وامام تحديات الربيع العربي الذي يهز الأنظمة العربية المجاورة برمتها.
في الواقع تقلب الموجة الثانية من الربيع العربي في لبنان والعراق والجزائر والسودان وإمتدادها الى الأراضي الإيرانية كل المفاهيم وتضع الصراع الدائر بين إسرائيل وإيران وكذلك إعلان بومبيو حول شرعنة الاستيطان في سياقه الصحيح. ففي الحقيقة العدو الحقيقي لنظام الملالي في ايران كان وما زال الشعب الإيراني نفسه الذي يعاني من إحتلال داخلي من قبل نظام مذهبي ديكتاتوري وفاسد كل هدفه هو التمسك بالسلطة من خلال قمع كل معارضة وفرض نمط حياة غريب على الشعب الإيراني. وقد لعبت الثورة السورية دورًا هامًا في زعزعة سلامة النظام الإيراني الذي ارسل ميليشياته وحزب الله اللبناني لقمع والفتك بالشعب السوري بهدف شطب الثورة على النظام الأسدي الحليف للملالي. وعندما احتفل الإيرانيون بانتصارهم فاجأتهم الثورة في كل من العراق ولبنان واللذين يخضعان لسيطرة إيران واذرعتها الكاملة. ولكن وكما كان متوقعًا فقد تحول الربيع العربي الى ربيع إيراني عندما خرج الشعب في مدن إيران خلال الأيام الأخيرة بمظاهرات إحتجاجية عارمة على خلفية رفع سعر الوقود ورد النظام بقتل المئات منهم.
واذا كان الربيع العربي خطر على سلامة النظام الإيراني فهو دون شك خطرا ليس اقل على سلطتي فتح وحماس في آن. فبعد ان إتضح ان سلاح المقاومة الإسلامية تحول الى سلاح لقمع الشعب الفلسطيني في غزة الذي إكتشف كيف الدولارات القطرية تتدفق الى جيوب المنتمين الى حماس في الوقت الذي يبقى به بقية الشعب جائع وابناؤه عاطلين عن العمل ودون مستقبل يذكر. وكان الإستياء من سلوك حماس المتعاون مع إسرائيل ومن الجهاد الإسلامي المغامر والتابع لإيران بارزًا وعلنيًا مما يشير الى ان الربيع الفلسطيني على الأبواب. اما وفي الضفة الغربية الأمور ليست افضل بعد ان فقدت السلطة الفلسطينية مصداقيتها، واستشرى الفساد، وازداد القمع ضد كل من ينتقدها ولا افق لاي تسوية مع إسرائيل ولا رغبة من قبل أبو مازن التنازل عن السلطة او تغيير النهج السائد.
ومن هنا وبعد انسداد الامل بحل القضية الفلسطينية، وفقدت حماس وفتح مصداقيتهما، يتشكل الإجماع الشعبي بضرورة الإطاحة بالنظامين في الضفة الغربية وغزة اذ لا برنامج لهما سوى الإستمرار بالحكم على حساب الشعب. ان شعار “كلن يعني كلن” الذي رفعه المتظاهرون في ساحة رياض الصلح في بيروت وفي ميدان التحرير في بغداد سيصبح عاجلا ام آجلا شعار فلسطيني قد يرفع في رام الله وغزة.
ان رحيل سلطتي فتح وحماس على إثر ظهور حراك شعبي مشابه لإنتفاضتي لبنان والعراق من شأنه أن يفتح مرحلة جديدة في النضال الفلسطيني ضد الاحتلال والتي ستكون سمتها المطالبة بنظام مدني وحضاري. واذا كان مصير النظام الإيراني شأن الشعب الإيراني فمصير الفلسطينيين سيعود الى مركز الاهتمام من جديد حتى تضطر إسرائيل وشعبها ان تواجه الشعب الفلسطيني بشكل مباشر دون الاحتماء وراء سلطتي فتح وحماس. ان الحل البديل الوحيد لافلاس حل الدولتين الذي كان خلال ثلاثة عقود الراية الفلسطينية الرسمية هو حل الدولة الديمقراطية الواحدة بين النهر والبحر. واذا كان المطلب اللبناني والعراقي دستور علماني غير طائفي فما سيطالب به الفلسطينيون هو دستور ديمقراطي علماني جديد ضمن دولة واحدة غير طائفية لليهود والفلسطينيين يحدد العلاقة بينهما على أساس المساواة التامة بين الشعبين.
اترك تعليقاً
يجب أنت تكون مسجل الدخول لتضيف تعليقاً.