ليبرمان ينظّر ودحلان ينفّذ

أثارت المقابلة التي اجرتها صحيفة “القدس” المقدسية مع وزير الدفاع الاسرائيلي أفيغدور ليبرمان ضجة اعلامية كبيرة داخل المناطق المحتلة وفي اسرائيل. الفلسطينيون انتقدوا الصحيفة لمجرد اجراء مقابلة مع مسؤول اسرائيلي وتحديدا مع شخصية متطرفة وعنصرية، بإعتبار ليبرمان مستوطنا يسكن في احدى المستوطنات جنوب الضفة الغربية. اما وفي اسرائيل عبرت شخصيات من المعارضة عن إنتقادها الشديد لمضمون المقابلة نفسها التي استخدمت من قبل ليبرمان لرمي سهم ذو رأسين باتجاه رام الله وغزة بشكل متزامن. ما اثار غضب اليسار الصهيوني كان موقف ليبرمان السلبي من ابو مازن من ناحية وإستعداده للمساومة مع حماس من ناحية أخرى. ففي الوقت الذي شطب دور ابو مازن كشريك للعملية السلمية فهو يقترح على حماس الميناء والتعاون الاقتصادي في حال وقفت المقاومة المسلحة.

ورغم المواقف المتباينة حول مشروعية اجراء المقابلة مع شخصية مثل ليبرمان الا ان مضمونها يحمل قيمة صحافية من الدرجة الاولى لأنها تكشف وبشكل واضح نية وزارة الدفاع الإسرائيلية تجاه الضفة الغربية وقطاع غزة، فالموقف الذي عبرت عنه المقابلة يمثل موقف الحكومة الإسرائيلية الرسمي سوى في الأجوبة  التي عمّد ليبرمان على توضيحها بانها رأيه الشخصي فقط مثل موضوع نقل مدينة أم الفحم الى السلطة الفلسطينية. ولم يكن ما يقوله ليبرمان مجرد “بروباغندا” بل سياسة رسمية يتم تطبيقها على ارض الواقع، ففي الوقت الذي يصرح نتانياهو بانه مستعدًا للقاء ابو مازن دون شروط مسبقة فهو يشطبه تماما كشريك للتفاوض بل ويقوم بكل مناسبة بضرب مصداقيته مثل ما عمل في الفترة الاخيرة عندما شارك ابو مازن في مراسم جنازة شمعون بيريز.

اما وفي ما يتعلق حركة حماس فأقوال ليبرمان بانه ليس لإسرائيل أي نية لإعادة إحتلال قطاع غزة بل هي مستعدة للوصول مع حماس الى إتفاق ينص على “الميناء مقابل السلام” اصبحت سياسة مطبقة على الارض الواقع. فمن خلال المصالحة مع الرئيس التركي اردوغان تم التطرق الى حصار غزة وتواصلا الطرفان لاتفاق يسمح بموجبه لتركيا بإدخال مواد غذائية، مفاعل لتحلية المياه وغيرها من المواد لتسهيل حياة المواطن الغزي. ان ممارسة الضغط على غزة من قبل النظام المصري الذي أغلق معبر رفح من ناحية وتحول اردوغان نحو بوتين ونتانياهو من الناحية الاخرى، لم يبق لحماس خيارات كثيرة سوى التأقلم مع الظروف التي تمليها موازين القوى الراهنة. ان الإنقسام بين فتح وحماس كان بلا شك اكبر هدية للاحتلال، فرسخ كيانين سلطويين مستقلين ذوا اهداف مختلفة تماما، فحماس انشأت إمارة إسلامية بينما فتح لا تهدف سوى تقليد النظام العربي ما قبل الربيع العربي، نظام فاسد، ديكتاتوري، يتمتع به المقربين من السلطة بكل شيء وبقية الشعب بلا شيء.

وإذا كان وضع قطاع غزة محسوما بالنسبة لإسرائيل بمعنى ان لا طموح لها في اعادة الحكم عليها، وسلطة حماس محاصرة من كل ناحية فمصر والسلطة في رام الله تضيق الخناق عليها في الوقت الذي تركيا وقطر تتعاونان مع اسرائيل في عملية اعادة بناء ما تم تدميره في الحرب الاخيرة، فالأمر يختلف تماما بنسبة للضفة الغربية. إسرائيل لها طموحات كثيرة بها، فهي تريد ادامة استيطانها ولا ترى في المستقبل دولة مستقلة بل شبه حكم ذاتي يعيش بجوارها. ولكن وبعد تجربة طويلة وصلت المؤسسة السياسية الحاكمة في اسرائيل الى الاستنتاج بإن ابو مازن لا يمكن ان يوافق على خطة من هذا القبيل ولسبب واحد وحيد وهو انه ضعيف سياسيا ومصداقيته تدهورت الى أسفل مستوى. واكبر دليل على مكانة فتح المتهاونة هو إلغاء انتخابات البلدية التي كان من المفروض اجرائها هذا الشهر وهذا بعد ان اتضح بان حماس ستشارك فيها وبقوة واحتمال نجاحها بات كبير جدا.

ولم يكتف ليبرمان بشطب ابو مازن بل ودعا في المقابلة نفسها بشكل صريح على استبداله وعندما سُئل عن من يقصد فقال انه يوجد كثير من المثقفين الفلسطينيين الذين تعلموا في امريكا ويفضلون الشراكة مع اسرائيل على الشراكة مع حماس. وبهذا يكشف ليبرمان وبشكل صريح ان على من سيخلف ابو مازن ان يختار بين اسرائيل وبين حماس او بكلمات اخرى عليه ان يكون مستعدًا لإقامة كيان منفصل عن غزة في الضفة الغربية حسب الشروط الاسرائيلية وهي النمو الاقتصادي مقابل التعايش مع الاستيطان. ان ليبرمان لا يتكلم من خياله بل كمسؤول امني ملم  فيما يحدث وهو يدرك عمق الإنشقاق بين فتح وحماس ولكن يعرف ايضا ان حركة فتح نفسها تمر ازمة داخلية كبيرة فهي منشقة على اكثر من تيار في ظل الانشقاق الكبير بين ابو مازن والنائب المفصول محمد دحلان.

وقد وصل هذا الانشقاق بين انصار ابو مازن ودحلان الى حد الاشتباكات مثل ما حدث في مخيم الأمعري للاجئين برام الله على خلفية فصل قيادات في فتح بتهمة ولائهم لمحمد دحلان. ان اقوال ليبرمان مدعومة ليس بمجرد موقعه كالسيد المطلق على ما يحدث في الضفة الغربية بموجب منصبه بل من قوى اقليمية هامة وعلى رأسها مصر، والامارات والاردن التي تتدخل بشكل مباشر ليس لإنهاء الانقسام بين فتح وحماس بل لمعالجة الانقسام داخل فتح نفسها. في هذا الصدد عقد في مدينة “العين السخنة” المصرية على شاطئ البحر الاحمر مؤتمر عقده المركز القومي لدراسات الشرق الاوسط الذي يرأسه اللواء المصري احمد الشربيتي بعنوان “مصر والقضية الفلسطينية وانعكاس المتغيرات الاقليمية على القضية” الامر الذي استقبل بالغضب من قبل فتح  التي رفضت المؤتمر وما قد يتمخض عنه. واعتبر المتحدث باسمها أسامة القواسمي «المؤتمر باطلا وغير شرعي وتدخلا مرفوضا في شؤون الحركة» ما يشير إلى أن فتح تخشى أن يكون وراء هذا المؤتمر محمد دحلان عضو اللجنة المركزية لفتح المفصول، مثل ما افاد الخبر.

ان ادانة ابو مازن “للتدخلات الخارجية بشؤون فتح”  ليست لها مصداقية كبيرة  كونه استقوى بمصر، والاردن وحتى اسرائيل في صراعه مع حماس ويسهم بشكل فعال بتضييق الخناق عليه بكل الوسائل الممكنة. وربما لهذا السبب تفضل ابو مازن عند السلطان التركي، وزار أنقرة قبل أيام في محاولة لتجنيد تركيا لصالحه بعد ان بردت العلاقة مع نظام السيسي الذي يرى الامن المصري مربوطًا بمحمد دحلان. فدحلان نشأ كرئيس الامن الوقائي في غزة وكانت له علاقات وثيقة مع جهاز الامن الاسرائيلي والسيطرة على احتكارات عدة بينها استيراد الوقود الى غزة تحت عين وقبول من قبل الاحتلال. ان ما بدأ كانشقاق بين فتح وحماس تحول الى تمزق يشمل الساحة الفلسطينية برمتها التي تلعب اسرائيل بمشاركة الدول العربية دورها في فرض بديلًا مريحًا لها بعد ان تنتهي حقبة ابو مازن.

من لا يريد ان يقرأ المقابلة مع ليبرمان فهو يدفن رأسه في الرمل ومن يستمر في الدعوة العبثية لإنهاء الانقسام بين حركتي فتح وحماس عليه ان يدرك ان القطار قد ترك المحطة من زمن بعيد. الساحة السياسية الفلسطينية تحطمت الى شظايا، الانقسامات تخترق كل التيارات السياسية والسبب هو فقدان البوصلة والبرنامج. ان الصراع اليوم ليس على مبدأ بل على السلطة، فلا احد يفكر كيف ممكن التخلص من الاحتلال بل كيف ممكن استغلال الوضع الراهن لمصلحته وكل الوسائل لذلك مشروعة. ان المأساة الفلسطينية لا تكمن بفقدان الإستعداد للتضحية – إذ يكشف الشباب الفلسطيني يوميا عن رفضه للوضع القائم ورغبته بنيل الحرية. إن الأزمة تعود اذن الى غياب القيادة الملائمة التي تعرف كيف تجمع كل هذه الطاقة النضالية وتوجهها بشكل صحيح في مواجه ليبرمان وامثاله.

عن