كان قطاع غزة الموضوع الرئيسي على جدول اعمال الحكومة المصغرة الاسرائيلية، وهذه المرة طُلب من قادة الجيش، تقديم حلول للمشكلة الاستراتيجية الجديدة التي تهدد امن اسرائيل، وهي ليس الصواريخ البعيدة المدى بل الطائرات الورقية الحارقة.
لقد كان موقف الجيش الاسرائيلي، ان طائرات ورقية لا تسبب الأذى في الارواح والحرائق التي تحرق المحاصيل والغابات على طول الشريط الحدودي لا بد من احتوائها فالبديل هو استهداف الاولاد الا ان ذلك سيؤدي الى احراج اسرائيل دوليا ويسئ اليها امام الرأي العام العالمي، وربما يؤدي الى حرب شاملة، ورغم الموقف الاسرائيلي المعلن بانها لا تريد التصعيد مع قطاع غزة ، ولا تخطط لاي حرب مع غزة، او اعادة احتلالها، او اسقاط سلطة حماس، لان اهتمام اسرائيل اليوم ينصب على الحدود الشمالية حيث التواجد الايراني، الذي يشكل الخطر الاستراتيجي الاكبر على الامن الاسرائيلي.
الا ان الطائرات الورقية، هي مثابة منبه لإيقاظ الراي العام على ما يعانيه قطاع غزة من كارثة إنسانية ناتجة عن افتقاد الغزيين لادنى شروط الحياة الكريمة، بما في ذلك توفر مياه الشرب، والكهرباء، وتوفر مصادر الرزق، والمرافق الصحية، وحرية التنقل بالنسبة للغزيين. وقد تحولت هذه الكارثة الإنسانية الى ورقة “جوكر” في أيدي الاطراف الاقليمية المتعددة، الأمر الذي يطوّل ويزيد من معاناة المواطنين، ويمنع الخروج من هذا المأزق.
ان اللاعب الاكبر والابرز بهذه الورقة وهذه الكارثة الانسانية، هو الإحتلال الإسرائيلي ذاته، الذي يمتلك مفتاح السجن الكبير في قطاع غزة، وهو يستخدم هذه الكارثة الإنسانية، لابتزاز حكومة حماس على أساس معادلة بسيطة جدا: “إعادة الاعمار مقابل نزع سلاح المقاومة”. وذات الورقة الكارثة الإنسانية، تستخدمها حركة حماس بشكل استراتيجي، لاضعاف المجتمع الغزاوي، الذي تُحكم قبضتها عليه، وبنفس الوقت تستغلها لتخوين السلطة الفلسطينية في رام الله.
وعلى صعيد السلطة الفلسطينية، فانها ترى في الغزيين، فرصة للضغط على حركة حماس، على أساس معادلة “المسؤولية الكاملة مقابل التمكين الكامل”، وفي هذه الصدد فان “التمكين الكامل” يعني بقاموس السلطة “توحيد السلاح”، بمعنى رفض فكرة حماس بتشكيل حكومة مدنية فوق الأرض مع وجود مقاومة مسلحة تحت الأرض. ولكن المعاناة الإنسانية لها وظيفة مزدوجة في يد فتح ايضا، إذ أنها تخدمها في حربها ضد حماس، بل وأصبحت ورقة ضغط على إسرائيل، التي تتجاهل هي أيضا السلطة الفلسطينية، وتتصرف في الضفة الغربية كيفما تشاء. ان العقوبات المفروضة من قبل ابو مازن على غزة مثل خفض رواتب الموظفين، وقطع الكهرباء، يؤدي في النهاية الى خوف وقلق اسرائيلي واضح من انفجار الوضع الانساني في غزة، وحتمية المواجهة التي تتجنبها في قطاع غزة .
ومن الجهة المقابلة، برز الموقف الايراني من خلال تدخلها السافر في اللعب على القضية الفلسطينية، واقحام نفسها في الشأن الفلسطيني، حيث تعجز عن مواجهة القصف الاسرائيلي لقواعدها في سوريا، وميليشيا حزب الله التابعة لها تخشى وتتخوف من حرب لبنان الثالثة على الجبهة الشمالية، فكان موقف حماس البارز للعب دور المقاوم بشرط ان يغير ويبدل اسماعيل هنية موقفه من نظام الاسد ، وان ينضم من جديد الى معسكر الممانعة بشكل انتهازي واضح .
ان احدى ميزات الاخوان المسلمين هي الانتهازية، ومثال على ذلك بعد ان تصالح سلطانهم التركي أردوغان مع الطاغي الروسي بوتين إنشق الإخوان المسلمين السوريين عن شركائهم “العلمانيين” وإنتقلوا الى معسكر التسويات مع الأسد.
ان إيران معنية بالمواجهة في غزة لتخفيف الضغط الإسرائيلي عليها في سوريا، وكلما تأزم الوضع الانساني في غزة وازداد سوءاً كانت ايران المستفيد الاكبر. فالنظام الإيراني الذي يعجز عن ضمان الخبز لشعبه يجد الوفرة من السلاح لتزويد المساكين العرب، سوريين كانوا او يمنيين او فلسطينيين، بالمال والسلاح لبث الاقتتال الداخلي والفوضى في بلدانهم.
لقد اصبحت الكارثة الانسانية في غزة ورقة لعب بايدي العديد من الاطراف الاقليمية والدولية، وليس فقط اسرائيل وايران وحركتي فتح وحماس، وانما برزت مواقف حركة المقاطعة (BDS) التي لا تكتفي بفك الحصار عن غزة، بل ترى في كل من حماس وفتح حركتين فاشلتين، فلجأتا الى المفاوضات تارة ، وتارة اخرى الى المقاومة المسلحة، وفشلتا في تحقيق اهدافهما. فأسلوب حركة المقاطعة هو المقاومة الحضارية السلمية أما الهدف هو تحقيق حق العودة وإعادة الأمور الى ما كانت عليه ما قبل 70 سنة، الى فلسطين ما قبل 1948. المعاناة الإنسانية في غزة شكلت ورقة دعائية ثمينة، كون معظم سكان غزة من اللاجئين والحل ليس بضمان لقمة عيشهم وحرية تنقلهم، بل العودة الى قراهم واستعادة ممتلكاتهم المسلوبة، ليبادروا في تأسيس حياة جديدة على أنقاض إسرائيل.
المشكلة هي ان من أجل تحقيق العودة الى فلسطين عام 1948 يجب على حركة المقاطعة أن تتغلب على الأبرتهايد الإسرائيلي، والنظام الفتحوي في رام الله، والجمهورية الاسلامية في غزة في آن واحد. وقد أثبتت المظاهرات الثلاث التي شهدتها مدينة حيفا ورام الله وغزة، تضامنا مع أهل غزة تحت شعار “غزة حتى العودة” بان الطريق العودة ليست سالكة وليست مفروشة بالورود، بعد ان تعرضت كل المظاهرات الثلاث للقمع الوحشي من قبل الشرطة الاسرائيلية في حيفا، واجهزة الامن الفتحاوية في رام الله، واجهزة قمع حماس في غزة باسلوب واحد يدل على الشراسة والخوف .
اما المقامر من النوع الثقيل، الذي يريد ان يحتكر ورقة غزة، ليخرج منها الرابح الاكبر، هو دون شك الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ما غيره. فبعد ان توصل الى صفقة القرن مع كيم يونغ اون الكوري، اثر لقاؤهما التاريخي في سنغافورة، والغاء الاتفاق النووي مع ايران، وبعد ان تعارك مع حلفائه الاوروبيين والكنديين، وفتح الحرب التجارية مع الصين، يريد الرئيس الأمريكي ان يطبق “صفقة القرن” في الشرق الأوسط ، ليضمن لنفسه نهائيا جائزة نوبل للسلام. وقد بعث ترامب الى المنطقة مبعوثيه الإثنين جاريد كوشنير وجيسون غرينبلات، من أجل جمع تمويل خليجي لمشاريع حيوية في قطاع عزة، بهدف تحويل القطاع إلى مركز الحل السياسي وفق «صفقة القرن» الأميركية. وأوضح مسؤول فلسطيني رفيع المستوى: “بعد رفض الرئيس محمود عباس أي حوار سياسي مع الإدارة الأميركية، عقب إعترافها بالقدس عاصمة لإسرائيل، سعت هذه الإدارة إلى إيجاد بديل في غزة من خلال الحديث عن مشاريع إنسانية جوهرها سياسي بامتياز”. (نقلا عن جريدة الحياة اللندنية)
إن المحاولة الإمريكية للالتفاف على أبي مازن، والتركيز على حل “غزة أولًا”، تدل على العزلة التي تواجهها السلطة الفلسطينية في رام الله، التي أصبحت محاصرة سياسيا من كل جانب بعد فتح السفارة الامريكية في القدس. ان جل اهتمام دول الخليج اليوم وعلى رأسها السعودية هو تمدد ايران في منطقة وليس للفلسطينيين ما يقدموا من عون في هذا الصدد بينما اسرائيل وامريكا تقوما بحرب فعلية وعلى كل المستويات ضد النظام الايراني.
ان الحصار المفروض على حماس من ناحية، وعلى السلطة الفلسطينية في رام الله من ناحية اخرى، يهدد بسقوط السلطتين معاً ، فما قامت به حماس بغزة عندما دفعت الالوف من المواطنين الابرياء، للزحف نحو الشريط الحدودي رغم التكلفة البشرية الباهظة، وما تقوم به السلطة في رام الله من عقوبات على موظفي فتح في غزة، وقمعها لكل إحتجاج في رام الله، يدلل على الوضع التعيس الذي وصلت اليه قيادة الحركتين المتناحرتين على السلطة على حد سواء، حيث فشلتا في إدارة سليمة للنزاع بينهما، وفشلتا في مواجهة الفساد المستشري في سلطيتهما، وسوء الإدارة في مناطق سلطتهما. هذا الواقع يؤكد الحاجة الماسة لإيجاد بديل سياسي جديد. ومن هنا فشعار “انهاء الانقسام” أصبح مطلب تقادم عليه الزمن ولم يعد يستجيب للواقع الجديد، والمطلوب اليوم هو انطلاقة ربيع فلسطيني، واقعي، ثوري على اساس التواصل مع المحيط العربي من ناحية، والتوجه والتنسيق مع القوى الديمقراطية داخل اسرائيل من اجل بناء دولة ديمقراطية واحدة تخدم كل مواطنيها على أساس الحرية والعدالة والمساواة.
اترك تعليقاً
يجب أنت تكون مسجل الدخول لتضيف تعليقاً.