تفشي ظاهرة العنف في المجتمع العربي في إسرائيل باتت قضية تمس بشكل مباشر سلامة المجتمع الإسرائيلي برمته، لدرجة أن رئيس الحكومة نفتالي بينيت نفسه قرر تشكيل لجنة وزارية لمكافحة العنف والجريمة في الوسط العربي. وقد أكد وزير القضاء جدعون ساعر بأن هذه “الآفة” تشكل أكبر تهديد على مستقبل دولة إسرائيل. وقد اتخذت اللجنة الوزارية قراراً يقضي بالاستعانة بالشرطة وجهاز الأمن العام “الشاباك” وجيش الدفاع لتنفيذ هذه المهمة، ووصلت الأمور إلى حد التلميح بإمكانية استخدام “الاعتقال الإداري” لمكافحة الجريمة.
إن مشكلة العنف في المجتمع العربي ليست جديدة وعدد الاغتيالات سنوياً ما يزال مرتفع، على مدار عقدين من الزمن، وعلى الدوام كان موقف القيادة العربية بأن عجز ولامبالاة الشرطة يقفان وراء تشجيع ما يسمى عائلات الإجرام للهيمنة على الحيز العام عبر بث الرعب في شوارع التجمعات العربية.
المواجهات في المدن “المختلطة” غيرت موقف الحكومة من أزمة العنف
كانت الهبة الجماهيرية التي رافقت الحرب الأخيرة في غزة “سيف القدس” أو “حارس الأسوار”، التي اندلعت في أيار/مايو الماضي، على خلفية النضال ضد إخلاء البيوت العربية في حي الشيخ جراح بالقدس، بمثابة إشارة واضحة على أن العنف في المجتمع العربي لن يبقى محصور ضمن حدود القرى والبلدات العربية، بل سينتشر إلى جميع أنحاء البلاد.
من الواضح، أن أعمال العنف في المدن المختلطة، وتحديداً في يافا وعكا وحيفا واللد، التي أثارت قلق المؤسسات الحكومية، كانت سبباً في اعتبار أن هذه الظاهرة باتت تمس الأمن القومي ويجب معالجتها بشكل جدي أكثر. وقد شهدت المدن المختلطة اعتداءات على الناس والممتلكات بعبوات حارقة وحتى بالرصاص الحي وسط عدم قدرة الشرطة على السيطرة على الوضع.
في السابق كانت آفة العنف في المجتمع العربي تُقابل بنوع من القبول ولم تستدع من الحكومة الإسرائيلية تدخلاً جدياً، طالما أن المتضررين منها هم المواطنين العرب فقط، ولكن ما كشفته حرب غزة الأخيرة من حجم الإحباط واليأس والغضب لدى الشباب العرب، الذي تفجر في وجه المواطنين اليهود على أوسع نطاق، وانعكس على توترات أمنية خطيرة في الجبهة الداخلية، الأمر الذي أثار قلق الحكومة الإسرائيلية، ومن هنا بدأ الاهتمام بمكافحة العنف في الوسط العربي.
القيادات العربية جزء من المشكلة
من المفارقات، أن القيادة العربية واضبت على اتهام الشرطة بالتقصير الذي أدى إلى تفشي العنف في المجتمع العربي، ولكنها بعد قرار الحكومة بإدخال الشرطة والمخابرات لملاحقة مجموعات الإجرام غيّرت هذه القيادة أسطوانتها وراحت تعلن الآن بأن الشرطة ليست الحل وترجع سبب العنف إلى ارتفاع نسب البطالة وعدم التعليم وافتقاد فرص التشغيل لدى الشباب العرب، التي بلغت 40% من مجمل عدد الشباب في جيل 18-24. هذا يعني أن العنف لا ينحصر بعائلات الإجرام فحسب، وإنما ينتشر إلى كثير من البيوت وأصبح آفة اجتماعية عامة.
وعلى الرغم من تأخر القيادات العربية في تشخيص المشكلة، إلا أن طريقة التعامل التي تطرحها مخطئة من الأساس. فالتعامل مع هذه القضية الخطيرة بمعزل عما يعاني منه المجتمع الإسرائيلي ككل، أو بحث حلول خاصة بالمجتمع العربي من دون الاهتمام بالأزمة الاجتماعية التي تمر بها إسرائيل، يقود لا محالة إلى طريق مسدود.
زيادة العنف في صفوف السود في أمريكا تشابه ما يحدث هنا
إذا أردنا معالجة قضية العنف بشكل صحيح علينا أن ننظر إلى الصورة الكبيرة ونفهم المشكلة في سياقها الصحيح، لأن العنف في المجتمع العربي ليس شيئاً خاصاً في هذا المجتمع دون غيره ولا علاقة له بـ “العقلية العربية”، أو طبيعة المجتمع المحافظ، بل بالحالة الاجتماعية والاقتصادية.
على سبيل المثال، تظهر الإحصائيات الخاصة بالجريمة وضحايا القتل في السود في الولايات المتحدة، أن من أصل 14 ألف حالة قتل في عام 2019 كان نصيب السود 53%، مما يعني أن المواطن الأسود معرض للقتل 14 مرة أكثر من المواطن الأبيض، مع العلم أن نسبة السود في المجتمع الأمريكي لا تتجاوز 10%.
ويمكن الاطلاع على التقرير عن الجريمة في أمريكا في عام 2019، بالضغط هنا. ومن خلال مقارنة المعطيات سنكتشف بأن نسبة البطالة والتهميش في صفوف الشباب السود في أمريكا هي 40% مثلها مثل نسبة الشباب العرب العاطلين عن العمل. كما أن التجربة الأمريكية علمتنا بأن الزج بالشرطة لم يحل المشكلة بل زاد من تفاقمها، مثل ما رأينا بقضية جورج فلويد والعشرات غيره بل المئات من حالات القتل لمواطنين سود بأيدي الشرطة الأمريكية.
وهنا لا بد أن نقارن أيضاً بين سياسة إدارة الرئيس بايدن وبين سياسة حكومة بينيت. بايدن يقود ثورة اجتماعية في بلاده بدعم من الجناح اليساري في الحزب الديمقراطي لإعادة دولة الرفاه وإنقاذ النظام الديمقراطي، الذي هددته الإدارة السابقة (ترامب) المدعومة من قبل عناصر فاشية وعنصرية، أما حكومة بينيت تستمر بنفس السياسات الاقتصادية النيو ليبرالية الموجودة منذ سنة 1985، والتي لا تزال تؤدي إلى توسيع الفجوة بين أقلية غنية تعمل في مجال “الهايتك” والأسواق المالية والمقاولة والتجارة بالسلاح وفي مجال “السايبر”، وبين بقية الشعب الذي يعيش جزء كبير منه على الحد الأدنى من الأجور وجزء يشتغل في المرافق الحكومية أو بشكل مستقل في شتى المهن ويتقاضون معاشات متوسطة. وتشير هذه المعطيات الإسرائيلية إلى أن دولة الرفاه قد تراجعت ومعها شبكة الأمان الاجتماعي، في العديد من المجالات، الصحة والتعليم والصحة النفسية والإسكان والشيخوخة والمواصلات وغيرها من الخدمات التي تقدمها الدولة للمواطن.
وبينما أصبح توفير فرص العمل وبرامج تشغيل الشباب هدفاً أساسياً للبنك المركزي والإدارة الأمريكية، نرى أن لا أحد في إسرائيل يهتم بتطوير هذا المجال في الوقت الذي يحظى قطاع “الهايتك” بكل أنواع الاهتمام، لأنه يجذب استثمارات أجنبية ويدخل عائدات ضريبية عالية لخزينة الدولة.
وفي الوقت الذي ترفع الإدارة الأمريكية نسبة الضريبة على الشركات الكبرى لتمويل المشاريع الحكومية وبرامج الرفاه، تسعى الحكومة الإسرائيلية إلى تخفيف الضرائب على حساب ميزانيات الرفاه، هذا فضلاً على ان حكومة بينيت ليس لديها خطة حقيقية لخلق أماكن عمل جديدة ومربحة.
كما أن محاربة الفقر تعدّ أحد الأهداف الرئيسة للإدارة الأمريكية من خلال تطوير شبكة أمان اجتماعية، أما الفقر في إسرائيل أصبح ظاهرة عادية لا تستدع الاهتمام، هذا فضلاً عن أن الحكومة الإسرائيلية لا تملك حلاً جذرياً لمشكلة الفقر ولا تحاول إيجاد سبل لجدية لمعالجتها، وتريد من الشعب أن يتعايش مع هذا الحال.
ليس هناك حلًا منفردًا للعرب
وإذا أقررنا بأن آفة العنف ناتجة عن الحالة الاجتماعية والاقتصادية، وتحديداً نسبة البطالة العالية في صفوف الشباب، فإن الحل يكمن بإحداث ثورة اجتماعية واسعة النطاق، تشمل الاستثمار في جهاز التعليم وتأهيل الشباب في المهن التكنولوجية، وتطوير المجال الثقافي والرياضي، وتطوير شبكة المواصلات، وحل مشكلة الإسكان وخلق فرص عمل لاستيعاب هؤلاء الشباب. فهذه المطالب الأساسية هي جزء من المطالب العامة المطروحة أمام المجتمع الإسرائيلي ككل.
وجزء من هذه المطالب عبر عنه الأطباء المتدربون الذين قدموا استقالاتهم الجماعية بسبب تشغيلهم في ورديات تستغرق 26 ساعة بسبب نقص الكوادر البشرية، وكذلك المعلمون الذين يطالبون رفع الأجور وتقليص عدد الطلاب في الفصل، والشباب المقبلين على الزواج يطالبون بحل مشاكل الإسكان.
وهذا يشير إلى أن المشكلات التي يعاني منها المجتمع العربي، رغم أنها أكبر بكثير مما لدى بقية شرائح المجتمع بسبب التمييز العنصري، هي جزء لا يتجزأ من المشكلة العامة ولا يمكن معالجتها بمعزل عن الوضع العام.
ما يفاقم طبيعة الأزمة في المجتمع العربي هو غياب القيادة القادرة على مواجهة مثل هذه الأزمة، لا سيما وأن السلطات المحلية العربية تعتمد التركيبة العائلية للمجتمع وتعاني من الفساد والمحسوبية، كل هذه الأمور تعمق من حدة المشكلة، هذا فضلاً عن الأحزاب العربية تأقلمت مع هذه الحالة وتكتفي بتوجيه الاتهامات للحكومة من دون أن تحاسب نفسها.
بدل من مواجهة الإفلاس السياسي، الذي نراه في أحزاب اليسار والقائمة العربية الموحدة التي انضمت لحكومة بينت- لابيد، ببرنامج بديل يمثل مصلحة اليهود والعرب على حد سواء، اكتفت أحزاب “المشتركة” بالخطاب القومي المنغلق والفارغ. وبدل أن تقود المعركة العامة نحو المستقبل وتنخرط في معركة المناخ وحقوق الإنسان والديمقراطية في العالم اكتفت القيادات العربية بلعب دور الضحية الأبدية.
في الوقت الذي أصبحت فيه الكوادر السوداء في أمريكا في طليعة الثورة الاجتماعية وتعمل على قيادتها من خلال انخراطها في الحزب الديمقراطي، بقيت القيادة العربية في إسرائيل معزولة ومحافظة ومنغلقة على نفسها، حتى أنها تؤيد الثورة المضادة ورموز مثل أبو مازن وبشار الأسد وعبد الفتاح السيسي ورجب طيب أردوغان.
المطلوب هو تغيير جذري داخل المجتمع العربي وتطوير قيادات ديمقراطية كي تشكل الطليعة في النضال العام من أجل الحرية والتقدم الاقتصادي والتكنولوجي والمساواة وكنس الفاشية والعنصرية. وطالما تبقى القيادة العربية واليسارية الصهيونية مثلما هي اليوم سيبقى العنف مسيطراً على الحياة وقد ينتشر أكثر وأكثر ليطال قطاعات أخرى من المجتمع الإسرائيلي وليس فقط التجمعات العربية. يبقى القول أن زج المخابرات والشرطة وحتى الجيش في المعركة لا يمكنه التغلب على الأزمة التي كما أشرنا لها جذور عميقة في حالة الفقر والإهمال والضياع الاجتماعي والاقتصادي الذي نتج عن 70 عام من العنصرية و40 عام من الرأسمالية المتوحشة.
اترك تعليقاً
يجب أنت تكون مسجل الدخول لتضيف تعليقاً.