من دون ضمانات.. الحجر الصحي عقاب وليس حلًا

بدء انتشار فيروس كورونا ( كوفيد-19) في الصين في شهر كانون الثاني، وبعد عدة أسابيع من إهمال وتكتم السلطات على المعطيات الطبية الخطيرة. إزاء الوضع الخطير قامت آنذاك الحكومة الصينية بإجراءات صارمة شملت الإغلاق الكامل على مدينة ووهان، بؤرة الوباء، حيث أجبر سكان المدينة، البالغ عددهم 11 مليون نسمة، على الإلتزام بالعزل المنزلي لفترة طويلة إستغرقت مدة شهرين. وقد أصبح النموذج الصيني معيارًا وطريقة للعلاج تبنته فيما بعد كل دول العالم بطرق متفاوتة.

الدولة الوحيدة التي كانت الاستثناء هي بريطانيا التي تلاعبت لفترة زمنية قصيرة بفكرة “مناعة القطيع”، وسمحت لمواطنيها بأن يستمروا بحياتهم العادية إلى أن اضطرت هي أيضًا على إعادة حساباتها ولجأت إلى الإغلاق التام للاقتصاد وفرض العزل المنزلي على السكان. وتلقت “عقوبة رمزية” حيث أُصيب رئيس وزرائها، بوريس جونسون، بالفيروس ومكث في غرفة العناية المركزة. وفي ذات السياق، أدى تأخر كل من فرنسا وإيطاليا وإسبانيا بإتخاذ الخطوات اللازمة إلى تحوّل المرض من مجرد وباء إلى كارثة إنسانية تفتك بمواطنيها.

أما في أمريكا، وعلى الرغم من إنكار الرئيس دونالد ترامب المرض، وإستهزاءه منه عندما إدعّى أنه ليس سوى انفلوانزا عابرة، نشهد اليوم تفشى المرض في كل أنحاء البلاد وعلى رأسها نيو يورك. لغاية اليوم هناك في الولايات الأمريكية لوحدها نحو 700 ألف شخص أصيبوا بالفيروس وأكثر من 40 ألف حالة وفاة. وتدل هذه الأرقام المذهلة على المفارقة حين تبين بأن أمريكا المتطورة وقائدة العالم هي في الواقع دولة ضعيفة ليست لديها الأدوات لحماية مواطنيها وبالتالي الأكثر تفشياً للوباء وأعلى معدل الوفيات.

الحجر المنزلي في الضفة الغربية

وقد حذت السلطة الفلسطينية حذوة بقية دول العالم في إعلانها الحجر الصحي في أنحاء الضفة الغربية حتى قبل أن تعلن إسرائيل عن الإغلاق وقامت بإغلاق المدارس والمحلات العامة. لم تكن السلطة الفلسطينية الوحيدة في اتخاذ هذا الإجراء الصارم فهي تتبع بذلك بقية الدول التي تعاني من كارثة إنسانية واقتصادية لا مثيل لها. ففي أمريكا وحدها فقدَ 20 مليون عامل مكان عملهم، وفي إسرائيل شملت البطالة مليون عامل جديد فصلوا من العمل بشكل دائم أو مؤقت. وقد استطاعت السلطة الفلسطينية من خلال التطبيق الصارم للإغلاق كبح جماح الفيروس والحد من انتشاره، الذي لم يتعدى حسب الاحصائيات أكثر من 400 حالة مصاب وثلاثة وفيات وهي قليلة جدا مقارنة بإسرائيل التي وصل عدد المصابين فيها إلى أكثر من 13 ألف مصاب توفي منهم 173 شخص، إلى ساعة كتابة هذه السطور.

عقابًا وليس حلًا

 إلى هذا الحد تتوقف المقارنة بين فلسطين وبقية العالم، إذ رافق الإغلاق والحجر الصحي وإلزام العمال الجلوس في بيوتهم في دول العالم بعمل مكثف لزيادة القدرات الطبية ومنحت المخصصات للعمال للتعويض على فقدان الأجر، اكتفت السلطة الفلسطينية بالإغلاق الذي أصبح الإجراء الوحيد لمواجهة الوباء. الإغلاق الاقتصادي في العالم تم إستخدامه كخطوة مؤقتة أو “فسحة زمنية” لمنع انهيار غرف العناية الصحية المركزة ولتزويد الجهار الصحي بكل المستلزمات لمعالجة الأزمة من أدوات الوقاية للطواقم الطبية، وأجهزة الفحوصات الكاشفة للفيروس، وأدوات التنفس الاصطناعي.

على مستوى التعويض الاقتصادي تزامن تجميد النشاط الاقتصادي والتعليمي والثقافي في كل بلدان العالم بإجراءات إقتصادية عاجلة وفي إسرائيل قدمت الحكومة الدعم لأصحاب المشاريع الاقتصادية ووفرت للعمال الذين توقف عملهم بدل البطالة عن طريق التأمين الوطني. فمن الواضح أن إغلاق البلد دون امتلاك “السلاح” الطبي لمواجهة المرض ومن دون تعويض العمال بالحد الأدنى من أموال الضمان الاجتماعي يجعل عملية الإغلاق عقابًا وليس حلًا. وأدى هذا الأمر إلى بقاء العامل الفلسطيني أمام خيارين لا ثلاث لهما فإما الموت من جراء الكورونا أو الموت من الجوع.

على هذه الخلفية يجب ان نرى تعامل السلطة مع العمال الفلسطينيين الذين يعملون في إسرائيل والمستوطنات والذين يشكلون مصدر الدخل الأكبر للاقتصاد الفلسطيني. بدل مساعدة هذا القطاع الهام من المجتمع وفهم أهميته للإقتصاد المحلي كان موقف السلطة تجاههم سلبيًا وذهب إلى حد اتهامهم بأنهم مصدر انتشار المرض في المجتمع الفلسطيني. هذا الموقف السلبي من العمال برز خلال النصف الثاني من الشهر الماضي، حيث مورست الضغوطات والتهديدات على العمال لإجبارهم على العودة إلى بيوتهم مما أدى بالعديد منهم إلى ترك مكان عملهم بطريقة غير مدروسة وبالتالي فقدان مصدر رزقهم على المدى القصير والبعيد.

وقد تبرر السلطة الفلسطينية سلوكها من خلال توجيه أصابع الاتهام لإسرائيل، مصدر كل الكوارث، إذ أنه المرض ينتقل من إسرائيل الى الضفة الغربية عن طريق العمال المتنقلين بين شطري جدار الفصل. صحيح أن عدد معين من الإصابات بالكورونا في المجتمع الفلسطيني في الضفة الغربية  كان مصدرها عمال يعملون في إسرائيل، إلا أن المرض نفسه ليس إسرائيليًا أو حتى صينيًا، إنه مرض “الحفاش” وانتشر لأنه في عهد العولمة لا توجد دولة مغلقة أو معزولة عن بقية العالم وهذا ما حول الإصابة بهذا الفيروس إلى وباء عالمي خطير.

وإذا كان بإمكان السلطة الفلسطينية أن تعزل نفسها عن إسرائيل وتوفر لمواطنيها الحد الأدنى من الإمكانيات للصمود في بيوتهم من دون أن يجوعوا سيكون الحجر الصحي شي منطقي. ولكن المشكلة ليست إسرائيل بل تكمن في عدم وجود جهاز صحي ولا أَسرة كافية في المستشفيات الفلسطينية، ناهيك عن عدم وجود عدد كاف من الفحوصات ومن الأجهزة التنفسية والتي من دونها لا يمكن التغلب على المرض. ففي مثل هذه الظروف حتى لو كان هناك ألف إغلاق ومنع تجول لا يمكن القضاء على وباء فيروس كورونا الذي من الواضح بأنه سيبق منتشرًا بين البشر إلى أن يتم إكتشاف علاج له او تطوير التطعيم ضده بعد سنة أو سنتين.

أهداف سياسية

في كل مكان من العالم كانت المعركة ضد الوباء الخطير تخدم أهدافًا سياسية وحزبية ضيقة. الرئيس الأمريكي ترامب يستخدم مؤتمراته الصحفية اليومية بخصوص المعركة ضد الوباء لاستثمارها سياسيًا في حملته الانتخابية، ومثله يعمل رئيس الوزراء الإسرائيلي نتانياهو الذي أجبر زعيم “كحول لافان” الجنرال بيني غانتس على الإنضمام إلى إئتلافه الحكومي وغض الطرف عن تهم الفساد الموجهة ضد نتانياهو.

ونرى القيادات الإسرائيلية التي فشلت في تثبيت حكومة ذات ثقة جماهيرية بعد ثلاث معارك إنتخابية في غضون سنة واحدة وهي تلعب اليوم بسيناريو الضم لمناطق الإستيطان اليهودي في الضفة الغربية المحتلة دون تفكير في نتائج هذه الخطوة، مستفيدة من وجود ترامب في البيت الأبيض. مما يكشف قصر نظرها وعدم جديتها في المعركة ضد الوباء الخطير.

أما في الضفة الغربية تستغل حركة فتح موضوع كورونا لتفرض سطوتها على الناس وإعادة إعتبارها بعد أن فقدت الناس الثقة بالسلطة الفلسطينية بسبب فسادها وتعاونها الأمني غير المبرر مع إسرائيل. الجدير ذكره إن وجود كوادر التنظيم في بلدات في مناطق “ب” وحتى داخل السيادة الإسرائيلية سمحت به السلطات الإسرائيلية في هذه المرحلة رغم عن إنها تقع حسب الاتفاقات تحت السيطرة الأمنية الإسرائيلية. وإذا أخذنا على سبيل المثال منطقة كفر عقب شمال القدس فنرى بأنها ورغم كونها في إطار السيادة الإسرائيلية سمحت بها إسرائيل لعناصر التنظيم من الانتشار وفرض سيطرتها وذلك لأن الإحتلال يرى بالظرف الراهن بأنها من مصلحته أن تسيطر هناك السلطة لأنه يرى الضفة الغربية وإسرائيل كوحدة إقليمية واحدة من الناحية الصحية.

وقد يكشف التعاون الأمني الوثيق بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل زيف الاتهامات العنصرية ضد اليهود كمصدر المرض فعلى أرض الواقع يتم الإعتماد الكامل إلى الجهاز الصحي الإسرائيلي كإحتياط في حالة إنتشار المرض على نطاق واسع وعلى الجيش الإسرائيلي من أجل نشر الشرطة الفلسطينية خارج المناطق التي تحت سيطرتها المباشرة.

في ظل هذه الظروف المعقدة يظهر الموقف الذي تتخذه السلطة إزاء العمال بأنه غير منطقي وغير واقعي وليس له أي أساس موضوعي. فما نراه في الفترة الأخيرة هو ممارسة أجهزة السلطة المختلفة لحملة ترهيب وملاحقة ضد العمال الذي يرغبون بالعودة إلى أماكن عملهم حفاظًا على لقمة العيش بل وخوفًا من فقدان مكان عملهم ومصدر رزقهم الوحيد.

كما قامت السلطة الفلسطينية في بعض المناطق بمصادرة هويات وبطاقات العمال الممغنطة التي تسمح لهم بالدخول إلى إسرائيل وإلى أماكن عملهم، ولا تكتفي بهذا الإجراء غير القانوني وغير الإنساني بل تتصل في العمال وتهددهم بالاعتقال في حالة ذهبوا إلى عملهم. والأنكى من ذلك أن كل هذه الإجراءات التعسفية تنفذها السلطة من دون أن تقدم بديلًا أو ضمانات اقتصادية أو حتى مساعدات إنسانية لتقيهم من خطر الانزلاق إلى الفقر والجوع.

على خلفية النقاش حول التعامل مع العمال تعرض بعض النشيطين التابعين “للحراك الفلسطيني الموحد” لحملة تهديدات وصلت في بعض الحالات الى الاعتقال لمجرد تعبيرهم عن إحتجاجهم ضد النقابات الفلسطينية ووزارة العمل لعدم وفائهما بمهماتهما الأساسية وهي الدفاع عن حقوق العمال ورفاهيتهم. فقد أصبح فيروس كورونا مبررًا لتكميم الأفواه وترهيب المواطنين الواقعين بين مطرقة الإحتلال وسندان السلطة الفلسطينية وحركة فتح.

على المدى البعيد ستكشف أزمة الكورونا طبيعة السلطة الفلسطينية مثلما من المقرر أن تكشف عورة النظام الرأسمالي برمته الذي أهمل مصالح الإنسانية أو نسبة 99% من البشر لصالح رأس المال الكبير الذي يشكل نسبة 1% من الناس.

ما بعد كورونا ليس كما قبله

فالسلطة الفلسطينية لم تستطع، منذ نشوئها، بناء أبسط مقومات الدولة لا سياسيًا، حيث لا ديمقراطية ولا قانون فيها، ولا اقتصاديًا ولا اجتماعيًا. إنها سلطة متعلقة تمامًا بالإحتلال وليس بمقدورها مواجهة وباء الكورونا، كما ليس بوسعها تحقيق أبسط الحقوق السياسية والمدنية للشعب الفلسطيني.

أما إسرائيليًا فمرض الكورونا يثبت مرة أخرى بأن لا حدود بين البشر مثل لا حدود بين فلسطين وإسرائيل. وأن إنكار الواقع الذي يربط بين الفلسطينيين والإسرائيليين في وحدة إقليمية واحدة صحيةً وديموغرافية واقتصادية وسياسية، مثله مثل إنكار وجود وباء كورونا في أمريكا وبريطانيا.

إنكار الخطر والهروب منه لم يمنع أبدًا وقوع الكوارث الإنسانية بل يزيدها أكثر شراسة وأكثر انتشارًا. إن العالم ما قبل كورونا لن يبقى على ما هو عليه، وبعد أن تمر أزمة الكورونا سيكتشف الفلسطينيون والإسرائيليون ومعهم العالم كله الحقيقة البسيطة بأن لا إقتصاد من دون صحة وأنه لا يمكن مواجهة الأوبئة من دون تعاون عالمي، ولا يمكن لإسرائيل أن تضمن أمنها من دون أن تضمن الحقوق الكاملة للفلسطينيين ضمن دولة ديمقراطية واحدة تراعي رفاهية كل مواطنيها من دون تمييز على أساس عرقي أو ديني أو قومي أو جنسي.    

عن يعقوب بن افرات