الأسد أو نحرق العالم

أعلنت القيادة المشتركة التي تجمع بين روسيا، إيران والميليشيات الشيعية أنها تعتبر ما قامت به الولايات المتحدة من قصف لقاعدة الشعيرات الجوية بمثابة اجتياز للخط الأحمر وتوعدت بالرد بقوة على أي اعتداء على السيادة السورية. وقد أبرز الإعلام الأمريكي هذا التصريح وتساءل: “هل نحن مقبلون على حرب عالمية ثالثة؟” وإذا وضع الأسد شعبه المنتفض أمام المعادلة الرهيبة “الأسد أو نحرق البلد” فاليوم تصعد كل من إيران وروسيا الموقف وتضعا العالم برمته أمام معادلة يوم القيامة “الأسد أو نحرق العالم برمته”. والسؤال هو لماذا يستعد الروس والإيرانيون لأن يذهبو إلى هذا الحد من أجل دكتاتور دموي فاقد للسيطرة على ثلاثة أرباع بلاده وكان سقط منذ زمن لولا التدخل المباشر من قبل روسيا وإيران؟ إن الجواب سهل للغاية، إن سقوط الأسد سيكون بداية النهاية لنظام الملالي في طهران وربما بداية النهاية لطموحات بوتين الإمبريالية.

لم يقصد ترامب في رده التلقائي على القصف البربري بغاز السارين في خان شيخون من قبل طيران الأسد، الإطاحة بالنظام السوري أو تغيير النظام في كل من موسكو وطهران. الهدف من إرسال الصواريخ ال-59 كان إعادة اعتبارٍ لمكانة أمريكا كأكبر قوة عظمى في العالم بعد ستة عشرة عاما من التآكل في موقعها العالمي بعد فشل سياسة بوش العدوانية في العراق وأفغانستان، وسياسة أوباما العكسية التي شهدت سحب القوات العسكرية والاعتماد على الدبلوماسية كوصفة سحرية لحل النزاعات الكونية. فعندما اجتاز الأسد وبتواطؤ مع الروس كل الخطوط الحمراء والاتفاق بتسليم كل الأسلحة الكيمائية الذي التزم به ليتجنب الضربة الأمريكية في عام 2013 بعد أن قتل 1500 مواطن سوري بالغاز في الغوطة الشرقية، فلم يبق أمام ترامب إلّا أن يغيّر موقفه بمئة وثمانين درجة. حجته كانت التأثر من صور جثث الأطفال المقتولين في خان شيخون لكنه في الواقع كان رد ترامب هو الخطوة التي كان من المفترض أن يقوم بها أوباما في آب 2013.

وقد أراد ترامب أن يثبت أنه ليس أوباما وهذا بعد أن اتهم أوباما بالتنصت عليه وبمسؤوليته عن كل الأمراض الحقيقية والمصطنعة التي تعاني منها أمريكا خارجياً وداخلياً. لكن هذه الضربة الدقيقة على القاعدة الجوية التي انطلقت منها طائرات الموت حظيت بدعم من طيف واسع من الشخصيات من الحزب الجمهوري الأمريكي وأيضا من التيار المركزي في الحزب الدمقراطي وعلى رأسهم هيلاري كلينون وجون كري اللذين شغلا منصبي وزيرا للخارجية عند أوباما. إن أنصار أوباما ومؤيديه توصلوا إلى الإستنتاج بعد القصف الكيماوي في خان شيخون أن أوباما أخطأ خطأ فادحاً عندما امتنع عن القصف بعد أحداث الغوطة الشرقية في العام 2013. ليست مصالح أمريكا هي التي كانت على المحك بل سلامة العالم برمته، فإذا أرادت أمريكا أن تقود العالم وأن يكون لها النفوذ الحاسم، فلا بد أن يتصرف العالم حسب الحد الأدنى من الأعراف الدولية وفي مقدمتها الحذر من استخدام الأسلحة الكيمائية التي تم حظرها بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى.

ومع ذلك لا شك بأنه كان لترامب والطاقم المرافق له من مستشاره ستيف بانون الذي كان المخطط الرئيسي لحملته الانتخابية والمعروف بمواقفه العنصرية تجاه المسلمين، الى وزير الخارجية ريكس تيلرسون وحتى المندوبة في الأمم المتحدة نيكي هيلي، كان لهم مساهمة كبيرة جداً في دفع الأسد وشركائه الروس إلى ارتكاب مثل هذه الجريمة النكراء. فقد أبدى ترامب إعجابه مراراً وتكراراً بشخصية بوتين ورفض أن يتم تسميته “قاتل” وهو يتحجج بأن الأمريكيين أنفسهم قاموا بجرائم وإنهم ليسوا أبرياء. كما شدد ترامب وفي أكثر من مناسبة على أنه مستعد للتعاون مع الأسد في الحرب على داعش مما خلق تصوراً بأن الدكتاتور السوري يتمتع بحصانة مطلقة ومن الممكن أن يتصرف مثلما يشاء. إن تصريح ريكس تيلرسون أثناء زيارته الأخيرة إلى تركيا بأنه “على الشعب السوري أن يقرر مصير الأسد” كان بمثابة تبني للموقف الروسي وضربة في ظهر المعارضة السورية التي ذهبت خمس مرات إلى جنيف وهي تصر على أن رحيل الأسد هو شرط للتسوية وأنه من الضروري  تبديل الأسد بمجلس انتقالي كما نصت عليه قرارات جنيف 1.

ولم يبق ترامب والإنعزاليون الأمريكان وحدهم في دعم الأسد والروس، فقد لاقى التحالف المؤيد للأسد دعماً من كل حدبٍ وصوب، يميناً ويساراً إعجاباً بشخصية بوتين باعتبار أنه هو من أوقف سيطرة العلم الأسود للدولة الإسلامية على المشهد السوري كله. كل هذه الأصوات التي تصفق لبوتين مستعدة لأن تغفر لنظام الأسد قتل نصف مليون نسمة وزجه مئات الآلاف في السجون وإخضاعهم للتعذيب الممنهج، وعمليات التطهير العرقي وتشريد الملايين من بيوتهم وخلق أزمة لاجئين كونية – وكل ذلك بحجة المواجهة المزعومة ضد المؤامرة الكونية على سوريا. واصطفّ خلف هذا الموقف الداعم للأسد كل من جان لوك ميلانشون، مرشح اليسار الفرنسي الراديكالي للرئاسة كما مارين لوبين اليمينية المتطرفة. أما النائبة عن الحزب الديمقراطي الأمريكي، تولسي غابارد،  والتي تعتبر من أنصار السناتور برني سندرز الإشتراكي فقد التقت مع بشار الأسد في شهر يناير المنصرم ووصفت القصف على مطار الشعيرات بأنه “متهور” ويشاركها ريتشارد سبنسر وهو متحدث بإسم القوة اليمينية المتعصبة للعرق الأبيض في إدانة الغارة التي قام بها ترامب على سوريا.

حتى القائمة المشتركة للأحزاب العربية في إسرائيل والتي تجمع بين الحركة الإسلامية، الحزب الشيوعي، حزب التجمع وأحمد الطيبي لم تعبّر عن أي موقف بسبب الدعم الكلي للأسد من قبل الشيوعيين. بعد سقوط مئات آلاف الضحايا، وبعد التعذيب والتطهير العرقي والتهجير من قبل النظام المدعوم من إيران وروسيا وحزب الله تنطلق الصرخات “ضد العدوان على سوريا”.

قد أخطأ الاسد وشركاءه الروس في كل حساباتهم لأنهم اعتقدوا أن شعار ترامب “أمريكا أولا”، قد يمنحهم تفويضاً مفتوحاً ليقضوا على ما تبقى من المعارضة في إدلب. نعم قد يرغب ترامب في تعديل المعادلة التجارية مع الصين، وبقية الدول الصناعية الكبرى لتخدم الإقتصاد الأمريكي أولا مثلما وعد قاعدته الإنتخابية. ولكنه يدرك تماماً بأنه ليس ممكناً أن يفرض موقف أمريكا في المجال الإقتصادي طالما هي تتراجع أمام الروس والصين في المجال العسكري والدبلوماسي. إن إعادة هيبة أمريكا العسكرية هي شرط مسبق لترجيح الكفّة التجارية لصالحها. من هنا لا يمكن الفصل بين المصالح الإقتصادية والمصالح الاستراتيجية. دون شك أصبحت سوريا ساحة لاختبار قدرة الأمريكان على إعادة هيبتهم على الساحة العالمية. إن التركيز على داعش وترك الساحة العالمية مفتوحة أمام النزعات الإمبريالية لروسيا والصين أثبت فشله، فروسيا دولة عظمى لكن ضعيفة لا تفكر بسلامة العالم بل بسلامة نظامها مثلها مثل إيران فاعتباراتها الضيقة تخلق فوضى في الشرق الأوسط كما في أوروبا. أن استخدام غاز السارين في خان شيخون إذا دلّ على شيء فهو يدل على ضعف الروس وإمكانيتهم في حسم المعركة.

من الصعب التكهن بماذا يريد ترامب من سوريا ولكن من الممكن الجزم بأنه ومن خلال الضربة الصاروخية على مطار الشعيرات قد تمكن من بلورة إجماع سياسي أمريكي جديد مفاده أن أيام أوباما قد ولّت والإرتكان إلى حسن نية الروس لا يقود سوى إلى مزيد من التراجع الأمريكي على الساحة العالمية. إن الإجماع الجديد ينص على أنه لا يمكن التركيز على داعش فقط دون الوصول إلى حل شامل في سوريا والذي يشمل عاجلاً أم آجلاً تنحي الاسد.

هذا الإجماع الأمريكي الجديد لا ينطلق بالطبع من حاجات وطموحات الشعب السوري لكنه يضع الأساس لسياسة متوازنة أكثر والتي تقترب من المبدأ الذي تنادي به القوى الديمقراطية السورية منذ زمن والتي تقول بأن القضاء على الإرهاب وحلّ قضية اللاجئين السوريين يفترض حلاً سياسياً جذرياً ولا يمكن للنظام الذي قصف مواطنيه بغاز السارين وأباد البلد من أجل بقائه في السلطة أن يكون جزءً من هذا الحل. هذا النظام قد تجاوز كل الأعراف الدولية ولم يبق له الحد الأدنى من الشرعية. ربما يشكل القصف الصاروخي الأمريكي لمطار الشعيرات إنذاراً رمزياً ولكن من الممكن أن يعتبر في نفس الوقت إعلان الحرب على النظام، والتحذيرات الروسية الفارسية بالرد بالقوة تثبت مرة أخرى طبيعة هذين النظامين واستعدادهما للتضحية ليس بالشعب السوري فحشب بل بالمجتمع الدولي برمته حفاظاً على طغيانهم وطموحاتهم الإمبريالية.

عن