الانتخابات المحلية تكشف عمق الكارثة في المجتمع العربي

لم تحظَ الانتخابات للسلطات المحلية في إسرائيل باهتمام الجمهور الاسرائيلي، وانعكس هذا في نسبة التصويت المنخفضة التي لم تتعد ال40% من أصحاب حق الاقتراع على المستوى القطري. تعود اللامبالاة إلى عدة أسباب، أولها عدم وجود منافسين جديين على رئاسة بلديات المدن الرئيسية (باستثناء بلدية القدس)، وبالمقابل وجود نوع من الرضا العام عن أداء السلطات المحلية الحاكمة. رؤساء السلطة المحلية في اسرائيل يتمكنون من ترسيخ سلطتهم عن طريق تفضيل قطاعات اجتماعية معينة، عادة الاغنياء، ومن خلال تشغيل وتعيين المقربين منهم. البلديات في المدن الاسرائيلية غنية بسبب وجود مناطق صناعية ومراكز تجارية تدفع رسوما عالية.

أما في المجتمع العربي، فالوضع مغاير. فالمدن والقرى العربية فقيرة ولا تملك مناطق صناعية او مراكز تجارية، مما يفسر فقر سلطاتها المحلية وتدني مستوى الخدمات. ولكن مع هذا فقد فاقت نسبة المشاركة في الانتخابات نسبة ال90% من الناخبين العرب، بينما لم تتعد نسبة الاقتراع للانتخابات العامة التي اجريت مطلع هذا العام، نسبة ال50%. يلاحظ ان الوضع عكسي بالنسبة للمواطن اليهودي الذي يسعى للتأثير على القرار السياسي من خلال المشاركة الفعالة في الانتخابات للكنيست، حيث تتعدى النسبة القطرية ال67.7%، بينما يتنازل المواطن العربي عن هذا الحق ولا يعتبر الكنيست وسيلة من طرفه للتأثير على القرار السياسي.

واذا كانت الاحزاب العربية الثلاثة – الجبهة، والتجمع والحركة الاسلامية – قد تمكنت من جمع مئات آلاف الأصوات وإدخال عشرة نواب للكنيست، ففي الانتخابات المحلية اختفت هذه الأحزاب بعد ان مُنيت بهزيمة كبيرة. في الناصرة مثلا فشلت النائبة البرلمانية عن التجمع، حنين زعبي، في المنافسة على رئاسة بلدية الناصرة، كما فشل مرشح الجبهة ورئيس البلدية لسنوات طويلة، رامز جرايسي، بينما حالف النجاح المرشح الثالث علي سلام الذي شكل قائمة جديدة غير حزبية وفاز بفارق ضئيل جدا على جرايسي. علي سلام كان نائبا لرئيس البلدية غير انه انشق عن الجبهة بعد ان أخلف جرايسي وعده بعدم الترشح لولاية إضافية وإفساح الفرصة لعلي سلام للتنافس على المنصب بصفته مرشّح الجبهة.ما حدث في الناصرة له دلالة سياسية عميقة لا بد من التوقف عندها. فنجاح علي سلام هو مثابة طي لصفحة تاريخية بدأت عام 1975 بفوز الجبهوي الراحل توفيق زياد برئاسة بلدية الناصرة والإطاحة بعائلة زعبي التي كانت مرتبطة تاريخيا بحزب العمل الحاكم آنذاك. وكانت هذه الانتخابات الشرارة الاولى للنهوض الوطني الكبير في صفوف الجماهير العربية في إسرائيل، وعلامة على كنس حكم المخاتير المتواطئين مع الحكومة الإسرائيلية لصالح الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة التي احتلت 50% من كل السلطات المحلية.

سقوط الجبهة في الناصرة يمثل استكمالا للعملية العكسية، التي تتم حسبها عودة العائلات والحمائل للساحة من جديد على حساب الأحزاب السياسية. نتائج الانتخابات في الناصرة تدل على كارثة حقيقية تعيشها الجماهير العربية في إسرائيل، بعد ان اندفعت وراء العائلية وتنازلت تماما عن المبادئ. فالمواطن العربي عموما لم يعد يؤمن بالبرامج السياسية أو بالأحزاب بل عاد لإطار العائلة كإطار أساسي يرعى مشاكله. المصيبة الكبرى أن من يقود هذا التطور المخيف ليس المختار الجهل الذي لم يعرف الكتابة والقراءة بل الشباب المثقف من محامين، مهندسين ومعلمين. فهؤلاء باتوا يترشحون باسم العائلة ويتحالفون مع العائلات الأخرى على أساس وعود بتقسيم الوظائف في حالة الفوز والاستيلاء على السلطة لمحلية.

نتائج هذا التحول مدمرة بالنسبة للمجتمع. كل عائلة ترى في العائلة المنافسة عدوا لها، ولا تتورع، في غياب البرامج الانتخابية، عن اللجوء إلى كل الوسائل بما فيها العنف، التشهير، التهديد، شراء الذمم، وكل وسيلة أخرى لضمان الأصوات. السلطات المحلية العربية تعاني منذ سنوات طويلة من الإفلاس المالي، وليس الأخلاقي فحسب، لان الرئيس الجديد مضطر لتنفيذ وعوده الانتخابية وتشغيل الناس على أساس الانتماء العائلي وليس الكفاءة المهنية. هكذا يجد بعض العائلات نفسه معفيا من الضرائب، والبعض الآخر يرفض دفع الرسوم احتجاجا على ان رئيس المجلس لا يعمل للصالح العام بل لصالح عائلته. الفساد بات مستشريا وكذلك إحباط المواطن الذي لا يجد من هذا الواقع التعيس مهربا.

من السهل جدا توجيه إصبع الاتهام لحكومة اليمين الاسرائيلية بكل ما يتعلق بالوضع الكارثي في السلطات المحلية العربية، ولن يكون هذا التقدير خاطئا عِلما أن الحكومة تميّز ضد العرب في توزيع الميزانيات للسلطات المحلية. ولكن السؤال الذي نحن بصدده هو ماذا يفعل ممثلو العائلات بالميزانيات القليلة التي يحصلون عليها الآن؟ واضح ان هذه الأموال تجد سبيلها الى شراء دعم العائلات. صحيح ان حكومة اليمين تمارس سياسة عنصرية عدائية ضد المواطن العربي، ولكن ما يفعله القادة السياسيون العرب لمجتمعهم لا يقل إساءة، فهم يضعفون مصداقيته الأخلاقية والسياسية عندما يتحدثون باسم المصلحة العامة ولكنهم يخدمون مصالحهم العائلية الضيقة.

ما حدث في انتخابات السلطات المحلية العربية لم يأتِ من فراغ، بل هو نتيجة مباشرة للأداء الخاطئ من قبل الأحزاب العربية نفسها. فالحزب الشيوعي ارتكب كل الأخطاء الممكنة عندما تحالف هو نفسه مع العائلات، واستفاد من التقسيم الطائفي في الناصرة تحديدا، حيث لجأت الحركة الإسلامية الى الطرف المناقض وحاولت فرض رؤيتها على المجتمع إما بالتخويف او بالعنف. طالما لعبت العائلية دورا في السياسة المحلية وحتى البرلمانية، ولكنها دائما تغطت بغطاء ديني أو وطني. ولكن وبعد ان فقدت الاحزاب مصداقيتها وانكشف ضياع المبادئ والبرامج وإهمالها لهموم المواطن، واهتمامها بالمقاعد، عادت العائلات بشكل مكشوف للساحة وبلا خجل. كل “وطني” صار يفتخر بانتمائه العائلي ويدعو للتصويت للمرشح المقرب منه، وفقط قلة قليلة ترى بعين القلق ما يحدث وتعرب عن استيائها البالغ.

ولماذا تستحي العائلات إذا كانت الأحزاب لا تستحي إعلان دعمها الصريح لبشار الأسد، عن أية ديمقراطية يتحدثون وبأي مبادئ يتغنون إذا كانوا يدعمون قتل الإنسان السوري لأنه طالب بالديمقراطية والحرية، ويؤيدون الانقلاب العسكري الفاشي في مصر، كيف بعد هذا كله يطالبون بالحرية للشعب الفلسطيني أو بالمساواة الكاملة للمواطنين العرب في إسرائيل؟ عندما تسقط المبادئ وتتلاشى الاخلاق لا يبقى سوى الفساد، العائلية والطائفية والعنف. هذا ما يمثله بشار الأسد وعبد الفتاح السيسي ومن شاكلهم ممن لا يتورعون عن ذبح أبناء شعبهم للبقاء في السلطة ومواصلة النهب والقمع، وليبقى الشعب فقيرا وبلا حقوق أساسية. كيف يمكن لكل هؤلاء الصامتين إزاء هذه الفظائع ان يطلبوا الثقة من الشعب، وكيف يمكن للشعب أن يمنح ثقته لمن خان هذه الثقة مرة تلو مرة، وليس هذا فحسب، بل تجاهل همومه ومشاكله.

ليس في استيلاء العائلات على السلطات المحلية العربية ما يبشر بخير، بل بمزيد من التدهور ووصول سلطات محلية إضافية إلى حالة الإفلاس وفرض لجان معينة من قبل وزارة الداخلية لإدارتها. الجماهير العربية موجودة أمام طريق مسدود، فلا احزاب لها من ناحية ولا بديل في الوقت الحالي عن العائلات التي سيطرت على المشهد البلدي. ويحتاج الخروج من هذه الحلقة المفرغة الى بناء بديل سياسي جديد على أساس ديمقراطي بعيدا عن الشعارات الدينية والقومجية التي عزلت الجمهور العربي وأبعدته عن أية إمكانية للتأثير السياسي على المجتمع والرأي العام الاسرائيلي.

من يريد التغيير عليه الخروج من قوقعة البلد التقليدي وفتح آفاقه نحو تحالفات واسعة تشمل منظمات وتيارات تقدميه في الشارع الإسرائيلي لها اهتمامات اجتماعية تعمل من أجل السلام العادل والعدالة الاجتماعية. ان الفقر والعنف وتدني الخدمات ليست من نصيب المجتمع العربي فقط، بل تهدد المجتمع الاسرائيلي ككل. ورغم التباين الإيديولوجي والاتجاهات السياسية المختلفة بين المجتمعين الا ان هناك قواسم مشتركة في أكثر من مجال تفتح المجال للتعاون والتأثير على القرار السياسي في اسرائيل. اذا اردنا الإصلاح الداخلي علينا الانفتاح والبحث عن حلفاء يسعون مثلنا الى بناء مجتمع عادل خالٍ من كل أشكال الاستغلال والعنصرية.

عن