في أواخر شهر تموز يوليو المنصرم نظّم حزب دعم مؤتمراً فكرياً في الناصرة استمر ليومين بعنوان: “نخترق جدار العزلة، نظرة نقدية للمجتمعين العربي واليهودي”. كان الهدف من هذا المؤتمر البحث عن قاسم مشترك يجمع بين ناشطين من اتجاهات ومجالات مختلفة يهوداً وعربا والذين يواجهون في عملهم العلمي، الثقافي، النقابي والاجتماعي التعصب القومي الديني داخل كلا المجتمعين الإسرائيلي والفلسطيني في آن. الحافز الأساسي لطرح نظرة نقدية عن الواقع الاجتماعي والسياسي هو إدراك كل المشاركين لخطورة المرحلة التاريخية التي نعيش فيها. فاليمين الإسرائيلي انتصر وعاد من جديد إلى الحكم، السلطة الفلسطينية تقف عاجزة أمام الاحتلال وغزة تضمد جراحها، ومن كل حدب وصوب تهب رياح التطرف الإسلامي مع إنشاء دولة الخلافة الإسلامية في العراق والشام.
وعلى ضوء هذا الواقع السياسي المتبلور هل من الممكن الاستمرار في نفس السياسة والتمسك بنظريات ما زالت ترافقنا منذ أواخر القرن الماضي؟ إلى أين أدت سياسة اليسار الإسرائيلي الذي فضّل الإجماع القومي والحوار مع المستوطنين بديلاً عن التحالف مع الديمقراطيين العرب وشباب الثورات والحوار مع الفلسطينيين؟ وفي الوقت ذاته إلى أين وصل المجتمع العربي الذي تمسّك بالإجماع القومي وانجرّ وراء التطرف الديني من أمثال حزب الله وحماس بدلاً من محاورة الديمقراطيين اليهود الذين يعارضون الاحتلال؟ من الواضح أن المستفيد من هذا الواقع هو دون شك اليمين الإسرائيلي والمستوطنون الفاشيون الذين يبررون عنصريتهم بعنصرية العرب تجاه اليهود. ومن ناحية ثانية فإن حالة القطيعة هذه مع اليهود والخلط بين يهودي وصهيوني وتحويل كلمة “اليهود” رديفة لكلمة “كافر” قد ساهمت بتكفير كل من يختلف مع التيارات المتطرفة التي تسعى لفرض نظام الترهيب على المحتمعات الاسلامية نفسها.
وقد رأينا كيف انفلت هذا التطرف في حادثة مقتل وحرق جثة محمد أبو خضير ومن ثم خرق المساجد والكنائس، اعتداء على المواطنين العزل من قبل المستوطنين بحماية ورعاية جيش الاحتلال، وصولاً إلى حرق وقتل عائلة دوابشة، الأب والأم والرضيع فجر يوم انعقاد المؤتمر في الناصرة 31 تموز 2015. إن كل هذه الأعمال الإجرامية الشنيعة ليست من صنع قلّة قليلة من المستوطنين بل تأتي على خلفية التحريض العنصري من قبل الحكومة ورئيسها ضد العرب والتي تجسّدت بسن جملة من القوانين التي تريد تحويل المواطن العربي إلى مواطن من الدرجة الثانية والمواطن الفلسطيني إلى إنسان مجرّد من الحقوق الأساسية. صحيح أننا قد لاحظنا الاستياء العام داخل المجتمع الإسرائيلي من هذه الأعمال الإجرامية ولكن سرعان ما عادت الحياة إلى مجرياتها العادية كون المعسكر الليبرالي عاجزاً مواجهة تطرف اليمين والمستوطنين.
أما وفي المقابل فيشهد المجتمع العربي ظاهرة لم يسبق لها مثيل وهي ظهور داعش على الساحة، وعنصريتها تجاه الأقليات المسيحية، اليزيدية، الدرزية وغيرها من المكونات التي تشكل فسيفساء الحضارة العربية الممتدة من المغرب إلى المشرق العربي. وقد شهدنا كيف تحول الإسلام السياسي المعتدل إلى حاضنة للإسلام “المقاوم” وكيف تحوّل الإسلام الراديكالي إلى كافر في عيون هؤلاء التكفيريين الذين تبنوا المذهب الوهّابي الخليجي. ومن هنا رأينا كيف تنتقل الثقافة التكفيرية الجديدة من بلاد الرافدين إلى داخل فلسطين وإلى ام الفحم وكفر كنا والناصرة، حتى أن الفلسطيني المسلم صار يعرف نفسه كمسلم فقط، بينما يعرف المسيحي نفسه بدينه، والدرزي يتمسك بدرزيته. وهكذا أصبح كتاب “أورفوار عكا” للكاتب علاء حليحل ممنوعاً في مدرسة بالباقة الغربية بأمر من الشيوخ وقد فُصل المعلم من عمله، ولنفس السبب مُنع ماراثون نسائي في الطيرة، وتم التهجم على “المثليين” بطريقة همجية، الأمر الذي أثار استياءً بل وقلقاً شديداً لدى شريحة واسعة ومتنوعة من المثقفين والسياسيين العرب.
وأمام هذا الواقع الخطير كان لا بد لنا من أن نبدأ بخطوة صغيرة بجمع أفكارنا، وتبادل آرائنا، وتوجيه نقدنا بل وتحديد موقفنا من كل هذه التطورات. وكان لا بد من أن نحلل هذا الواقع وأن نقرر إذا كان الربيع العربي انحرافاً تاريخياً أدى إلى ولادة داعش مثلما يعتقد الصهاينة من ناحية والشيوعيون من ناحية أخرى؟ هل الطريق لحل القضية الفلسطينية يمرّ من خلال دولة واحدة لتجنب المواجهة المباشرة مع المستوطنين واليمين الإسرائيلي المتطرف؟ أين فشلت حركة الاحتجاج الإسرائيلية التي هزت الساحة السياسية وكان بإمكانها إحداث تغيير سياسي جذري؟ كيف يؤثر الربيع العربي على القضية الفلسطينية وكيف تتعامل معه التيارات السياسية المختلفة على الساحة الفلسطينية؟ ما هو تأثير التطرف الديني على حرية المرأة وكيف يؤثر قمع المرأة العربية على المجتمع ككل؟ كيف يتأثر الإبداع الأدبي والفني من الرقابة الذاتية التي تمنع كل تعبير “إباحي”؟
هذا كان فحوى المؤتمر ولا شك بأن مساهمة المشاركين كانت مثيرة للغاية لأنها عبّرت عن تجارب شخصية قد أغنت النقاش وإدراك وفهم كل من شارك عرباً ويهوداً على حدٍّ سواء.
حزب دعم والمشاريع التطويرية والنقابية
كانت الكلمة الإفتتاحية للأمين العام لحزب دعم الرفيق يعقوب بن إفرات الذي عقّب على الرابط الوثيق بين التوجه الثوري لحزب دعم وبين العمل النقابي والمشاريع التطويرية المختلفة التي يساهم بها رفاق دعم والهادفة باستمرار إلى إحداث تغيير إجتماعي ثوري. رغم اختلاف المشاريع إن كان على الساحة الإسرائيلية بشكل عام أو بين المواطنين العرب فالهدف واحد: بناء قوة إجتماعية يهودية عربية من أجل العدالة الإجتماعية، المجتمع الديمقراطي، المساواة بين كل المواطنين وإنهاء الاحتلال ونظام التفرقة العنصرية.
وجاء هذا المؤتمر تتويجاً لعدّة فعاليات مهمة في الوسط العربي ومنها خمس مؤتمرات في كفر قرع، باقة الغربية وكفر كنا. اختص الأول بموضوع الوقاية في فرع البناء وشارك بها مئات عمال البناء والثاني خصص لتشغيل المرأة العربية بمشاركة نساء يعملن في مجال الزراعة – وقد شارك في كلا المؤتمرين ممثلين عن الوزارات الحكومية المختصة.
وكان المؤتمر الثالث مهرجان يوم المرأة بمشاركة نساء ناشطات في المجتمع العربي من أجل رفع مكانة المرأة العربية وكان الرابع مهرجان الأول من أيّار في باقة الغربية وقد جمع المئات من العمال وممثلين عن نقاباتٍ عمالية مختلفة وكان الخامس مؤتمراً لاستننهاض السياحة في كفر كنا بمبادرة “سنديانة الجليل” والجمعية السياحية التابعة للمجلس المحلي في كفر كنا. وفي نفس الوقت تم تنظيم معرض “خبز وورود” بمشاركة مئات الفنانين اليهود والعرب لبيع الأعمال الفنية لصالح مشروع تشغيل النساء العربيات.
أما وفي المجال النقابي فقد قامت نقابة معا العمالية بتنظيم سائقي الشاحنات في شركة النقل “موفيلي درور” التي يعمل فيها 160 سائقاً، وأنجزت أيضاً اتفاقاً جماعياً ينظّم شروط العمل لأربعين مدرّس في مركز الموسيقى في بلدية رأس العين إضافة إلى حملة كبيرة جداً للدفاع عن العمال الفلسطينيين في كراج تسارفاتي الذي يقع في مستوطنة “معالي أدوميم”. كل هذا العمل الجبار ما كان له أن يتحقق إلّا بمجهود كبير من قبل الكادر الحزبي الملتزم بمبادئ الحرية، العدالة الاجتماعية والديمقراطية للكل. إن الإيمان بهذه المبادئ هو المناعة ضد الفساد ومن خلال الفهم للواقع الذي نعيشه نستطيع أن نأخذ القرارات الصائبة بناء على الثقة بالجماهير والسعي لخدمتها الصادقة، ويسمح ذلك لنا بتحقيق كل هذه الإنجازات رغم عددنا القليل نسبيا.
أما ما يعطينا القوة للمثابرة والتفاؤل الثوري فهي طاقة الجماهير نفسها. فهؤلاء الأبطال في العالم العربي في كل من تونس، مصر، ليبيا، اليمن وسوريا الذين قلبوا كل المفاهيم بعملهم الثوري وفتحوا أمامنا أفقاً جديداً، أفقاً كان مسدوداً طوال 20 عام منذ التوقيع على اتفاق أوسلو. لقد فكّت الحركة الثورية الجديدة الطوق الفكري الذي كان مفروضاً علينا بسبب انهيار اليسار وانجراره وراء أوهام السلام وبعد ذلك بسبب انحياز الكثيرين إلى معسكر “الممانعة”. لقد جاء الربيع العربي ليكشف كلا المعسكرين حين أسقط الأنظمة الموالية لأمريكا وفضح معسكر الممانعة بكل ما فيه من رجعية، وديكتاتورية وعدوانية تجاه الشعوب. وكان هذا المؤتمر بمثابة مؤتمر الانفتاح، مؤتمر الرياح الجديدة، مؤتمر النقاش والحوار على ضوء سقوط كل الأيديولوجيات القديمة وفشل التمترس وراء مفاهيم خاطئة استخدمت الشعارات المناهضة للإمبريالية وللصهيونية مبرراً ليس للتحرر بل لقمع واستغلال الجماهير الكادحة.