بعد الاجتماع بين وزير الخارجية الامريكي جون كيري ورئيس اللجنة التفاوضية العليا رياض حجاب في الرياض سقطت كل الأقنعة عندما اتضح بأن كيري قد سلم الإملاءات الروسية الايرانية إلى ممثل المعارضة السورية بقوله بكل بساطة ” تعالوا إلى جنيف دون أي شروط وإلا فسنقطع عنكم كل الدعم”. وكان التنديد بموقف كيري قد شمل كل من له صلة بالشعب السوري ونضاله من أجل إسقاط النظام المجرم. وكان الشعار الذي عبر عن رفض مفاوضات جنيف “لا نريد أوسلو جديد” بمعنى نرفض الإستسلام والقبول بالشروط المجحفة التي أُمليت علينا وفي مقدمتها التنازل عن المطلب الأساسي وهو تنحي الأسد وبناء هيئة حكم إنتقالي لتتسلم مهمة إعادة بناء نظام ديمقراطي في سورية. بدل هذا المطلب الأساسي قدم كيري موقفاً ينص على القبول بحكومة وحدة بين النظام والمعارضة وحق الأسد في ترشيح نفسه بالانتخابات المستقبلية.
لا شك أن جنيف 3 سيبقى في ذهن الرأي العام السوري والعالمي إسماً رديفاً للإستسلام ولكن الفرق بينه وبين أوسلو شاسع مثل الفرق بين وضع الشعب الفلسطيني والشعب السوري. من الصعب المقارنة بين نكبة الفلسطينيين ونكبة السوريين سوى بالقول أن المسؤول عن مأساة السوريين هو النظام الذي يحكمهم والمدعوم من قوى عظمى مثل روسيا وإيران وبتواطؤ فاضح من قبل الأمريكان بينما يتعرض الفلسطينيون إلى القمع والتشريد من قبل قوة إستعمارية جاءت لتستوطن في وطنهم. أما اتفاق أوسلو فيختلف عن جنيف بكونه تم في السر ومن وراء ظهر الرأي العام وحتى الأمريكان أنفسهم، فهو تم بالعاصمة النروجية بين محمود عباس (أبو مازن) وشمعون بيرس بعد أن تم الإعتراف المتبادل بين دولة إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية، بينما المفاوضات في جنيف تجري تحت أنظار العالم كله والتوقعات أن تخرج بنتيجة ضئيلة جداً.
اتفاق أوسلو جاء بفضل إنتفاضة جماهيرية هزت المجتمع الإسرائيلي والمؤسسة الأمنية التي جربت كل وسائل القمع المتاحة أمامها ولكن دون جدوى، وقرار الفلسطينيين في خوض المفاوضات تم بإرادة سياسية ذاتية رغم أن الإتفاق نفسه انحصر على الإعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية والموافقة الإسرائيلية على تسليم غزة وأريحا للسلطة الفلسطينية فقط دون أي ذكر لدولة فلسطينية أو مصير المستوطنات. وقد سوّقت في حينه القيادة الفلسطينية وعلى رأسها حركة فتح للاتفاق على أنه إنجاز تاريخي سيقود دون شك إلى دولة فلسطينية مستقلة وعلى هذا الأساس كسبت الدعم من قبل 90% من الفلسطينيين في المناطق المحتلة. وقد صوتت الأحزاب العربية في الكنيست لصالح هذا الاتفاق بل صورت ولا تزال الجنرال رابين كرجل السلام الذي تم اغتياله بسبب الإعتراف بالحقوق الفلسطينية.
أما في سورية فالمفاوضات في جنيف أصبحت مقدمة لهجوم جوي وحشي من قبل الطيران الروسي الذي أودى بحياة المئات، في الوقت الذي يموت فيه عشرات السوريين من الجوع في مضايا الأمر الذي اضطر جون كيري لأن يصرّح “موت الناس جوعاً في مضايا في سورية لم نشهد مثيلاً له منذ الحرب العالمية”. وعليه تساءلت إفتتاحية “الواشنطن بوست” لماذا لم تحرك إدارة أوباما ساكنا لمنع لمثل هذه الكارثة؟ وإذا اعترفت إسرائيل بمنظمة التحرير الفلسطينية ففي جنيف لا يزال النظام وشركائه الروس يصفون المعارضة بأنها إرهابية. ورغم كل وحشية الاحتلال الإسرائيلي لم نشهد حتى الآن مشاهد من قرى ومدن مدمرة بالكامل، ملايين اللاجئين يهربون من الموت قصفاً ليلاقوا الموت في البحر خلال محاولة الوصول إلى اليونان أمام الصمت القاتل من قبل المجتمع الدولي.
وقد استُغِل الدمار، القتل والتجويع كورقة ضغط على الشعب السوري من قبل دول العالم وعلى رأسها ما يسمى “أصدقاء الشعب السوري” ليستسلم أمام الوحوش الذين يشنون حرب الإبادة من أجل إبقاء نظام مستبد، طائفي يخدم عائلة على حساب شعب بعد أن فقد هذا النظام كل مصداقية أخلاقية، سياسية، وقانونية وهذا بدل أن تتم محاكمته بتهمة “الجينوسايد” (إبادة شعب). وإذا تم وصف رابين برجل السلام وتسلم مع عرفات جائزة نوبل فالأسد حاز على لقب أحد أكبر سفاحي العالم لدرجة يدرك فيها كل عاقل أن لا مستقبل لسورية بوجوده. لا يوجد اليوم سوري يفكر بأن جنيف يقود إلى الحل بينما توهم الشعب الفلسطيني بأن أوسلو هو الحل وبداية النهاية للاحتلال.
وإذا كان المطروح في جنيف ليس سوى الإستسلام فيبقى السؤال: ولماذا الذهاب أصلاً؟ لأنه بعد خمس سنوات من القتال لم يبق أمام الشعب السوري سوى الإختيار بين السيء والأسوأ منه. لم يعرف الفلسطينيون ظاهرة مثل داعش ولم يجربوا التدخل السافر في شؤونهم مثل السوريين. لم تشهد الساحة الفلسطينية هذا الكم الهائل من الميلشيات السنية، والكردية والشيعية وغيرها ممولة من كل حدب وصوب حتى تفتت الشعب وتفتتت معارضته. فكان لا بد من لم الشمل وإنقاذ ما يمكن إنقاذه مما تبقى من سورية وشعبها وإظهار الإرادة الراسخة بعدم قبول هذا النظام القاتل، والمطالبة بتوفير الحد الأدنى من الشروط من أجل البدء في التفاوض وهي وقف القصف على المدنيين ووقف الحصار التجويعي على نصف مليون سوري والإفراج عن المعتقلين لا سيما النساء والأطفال. كان لا بد من إثبات الوجود، عدم ترك الساحة للنظام والروس والإثبات للعالم كله للمرة الألف بأن المشكلة في سوريا تبدأ من النظام ولا يمكن التغلب على داعش بوجود الأسد.
لا يمكن للشعب السوري أن يصل إلى اتفاق أوسلو لأن حلاً من هذا النوع غير مطروحٍ أساساً، رابين ليس الأسد وإسرائيل ليست سورية. النظام السوري قد انهار، لا سلطة له، لا جيش ولا اقتصاد وهذا ما يحدد عدم قدرته على المرونة في التعاطي مع المعارضة. وإذا استطاعت إسرائيل أن تحتوي الفلسطينيين وحتى أن تحظى بالتعاون الأمني مقابل إمتيازات مادية للسلطة الفلسطينية فلم يبق للنظام السوري ما يمنحه للشعب سوى المزيد من القمع والقهر والدمار. هذا النظام المنهار سلم نفسه وشعبه إلى يد إيران وروسيا بعد أن حول شعبه إلى عدو له يحاربه حتى بالسلاح الكيماوي. فكيف يمكن الوصول إلى اتفاق حل وسط مع من ليس له ما يعطي وكيف يمكن الحفاظ على جهاز الدولة مثل ما يطلب الأمريكان والدولة قد انهارت؟
الحقيقة المرّة هي أن التدخلات الخارجية لا تضر بالشأن السوري فقط بل العربي برمته. فمصير سورية مربوط بمصير اليمن ومصر وليبيا بل وبمصير النظامين السعودي والإيراني نفسهما. إن الشعب السوري مثله مثل الشعوب العربية كلها ومن ضمنها الشعب الفلسطيني، يعاني من هذا الصراع الدائر بين نظامين أصوليين يميزهما التطرف الديني وعدم القبول بالقيم الديمقراطية. كيف يمكن للسعودية أن تطلب الديمقراطية في سورية وهي تطبق أحكام الشريعة الوهابية وكيف يمكن لإيران أن تتكلم باسم الشعوب المضطهدة وهي تضطهد شعبها وتمنح للجيش وللحرس الثوري والمؤسسة الدينية أن يحتكروا السلطة والاقتصاد؟
إنه وفي هذه الظروف لا حل حقيقي لسورية ولا لفلسطين ما دامت هذه الانظمة تتحكم بمصير المنطقة وشعوبها. إن انتصار الديمقراطية في سورية مثل انتصار الديمقراطية في فلسطين هو بمثابة أكبر ضربة لإسرائيل ونظامها العنصري وفي نفس الوقت سيكون ذلك ضربة قوية للنظام السعودي والإيراني. هذا ما يفسر لماذا أصبحت الديمقراطية السورية عدواً للغرب ولأمريكا نفسها لدرجة أنها تطلب من السوريين أن يخاتروا بين داعش والنظام. فالديمقراطية ليست خياراً للسوريين بل امتياز للشعوب في الغرب. هذا ما قاله لي بمرارة شاب سوري من حي جوبر في دمشق، الحي الذي خرج إلى الشوارع منذ بداية الثورة إلى أن اختطفت ثورته لصالح حاملي السلاح باسم جهاد شوّه الصورة الجميلة للثورة السورية.
اترك تعليقاً
يجب أنت تكون مسجل الدخول لتضيف تعليقاً.