قطر وما يسمى بالإرهاب
كان لا بد للأزمة أن تحدث، والغريب أنها لم تحدث من قبل. إمارة سمّت نفسها دولة وتديرها قبيلة على رأسها أمير في عنفوان شبابه والذي يلعب على رقعة الشطرنج العالمية مقابل أكثر من لاعب دولي واقليمي ويفوز مرة تلو الأخرى ليس بفضل الحكمة السياسية بل بفضل مليارات الأمتار المكعبة من الغاز التي تمتد تحت قدميه. وتتصرف قطر مثل المواطن الفقير الذي فاز بالجائزة الأولى في اليناصيب وأصبح بين ليلة وضحاها مليونيراً، إلّا أنه وبعد فترة عاد من جديد إلى حالته قبل الفوز الثمين ذلك لأنه لا يعرف كيف يتصرف برأسماله الجديد.
الأمير القطري الشاب ومن قبله والده تعلما القانون الرأسمالي الأول الذي ينص على أنه إذا أردت أن تحصّن رأسمالك عليك أن توزع استثماراتك في شتى المجالات. فقد قام الشيخ بضمان مكانه أولًا من خلال بناء أكبر قاعدة جوية أمريكية في المنطقة والتي تحتضن 11,000 جندي أمريكي. فيما بعد أنشأت قطر محطة بث فضائية دورها الأساسي حماية العائلة ومصالحها، بعد ذلك شراء كل ما يمكن شرائه من فريق برشلونا، إلى عقارات في نيو يورك، إلى بنوك في المانيا، شركة نفط في روسيا والحفاظ على علاقة ودّية مع طهران وفي نفس الوقت البقاء على اتصال دائم مع تل ابيب. من خلال استثماراتها الذكية والتلاعب بالتناقضات بين الدول أصبحت قطر محمية من كل شر، إذ كان الجميع معنيا بسلامة الإمارة حتى إنها فازت باستضافة المونديال في 2022 بفضل الشيخة موزة وأموال الشيخ حمد.
ولم يكتف الشيخ بشراء العالم بل وزع استثماراته السياسية على أكثر من اتّجاه، فمن عبد الرحمن النعيمي إلى عزمي بشارة، من الشيخ بن لادن إلى حسن نصر الله، من خالد مشعل إلى محمد الجولاني، مسيحيون ومسلمون، شيعة وسنة، علمانيون ومتدينون وجدوا الدعم من الأمير الكريم حسب الشعار المعروف “الرأي والرأي الآخر”. ولا تحتضن قطر على أرضها سوى مقاومين. قطر هي ليست أكبر قاعدة عسكرية أمريكية بل هي أيضا أكبر قاعدة للمقاومة ضد أمريكا وإسرائيل. من الطبيعي أن تكون المقاومة ضد أمريكا خارج الأرض القطرية، في افغانستان، لبنان، العراق، سوريا أو حتى المريخ، المهم أن لا تكون على أرض قطر نفسها فمن مصلحة المقاومة الحفاظ على سلامة العائلة الحاكمة وليس أضمن لبقائها من وجود 11,000 جندي أمريكي على أرضها.
إن التفسير القطري للأزمة الحالية مع السعودية والإمارات هو الخلاف المبدئي بين البلدين حول الربيع العربي. فالمتكلمون باسم قطر يقولون بأنها وقفت بل وتفتخر بأنها كانت من صانعي الربيع العربي بينما السعودية عارضت بشدة الثورات العربية خوفا على سلامة نظامها المحافظ والفاسد. وترفض قطر تصنيف الإخوان المسلمين بالإرهابية وتدعم حماس بسبب مقاومتها الشرعية للاحتلال الإسرائيلي. وإذا كان علينا أن نختار بين ثورة 25 يناير ونظام السيسي، أو بين إسرائيل وحماس فالخيار واضح جداً لكي تحظى قطر بتعاطف من قبل كل من ينادي بالديمقراطية والعدالة الاجتماعية، ليس في قطر طبعا بل على الأقل في بقية الدول العربية وعلى رأسها مصر.
لا أحد ينكر دور قطر والجزيرة في الربيع العربي، “الشعب يريد إسقاط النظام” رُفع في كل مظاهرة وإلى جانبه ملصق يحمل شعار “شكراً للجزيرة”. فكيف يمكن أن نتخيل ربيعاً عربياً دون الجزيرة ودور مديرها وضاح خنفر أهم شخصية عالمية في سنة 2011. عندما قام شباب تونس ومصر بثوراتهم حولت الجزيرة ميدان التحرير إلى ميدان العالم كله وفتحت المحطة أبوابها أمام الشباب المصري لكي يديروا ثورتهم حتى إسقاط النظام. ولكن منذ لحظة سقوط النظام اكتشف شباب مصر بأن أجندتهم لا تتماشى مع أجندة الأمير القطري. فهو شكرهم على مجهودهم الفضيل ولكن مصر ليست لعبة شباب واحتجاج بل دولة إقليمية كبرى فهي لعبة الكبار بمعنى أن مصير مصر سيحدد بين القوى الفاعلة على الساحة وهي الإخوان المسلمين والجيش.
وقد انحازت قطر لصالح الإخوان الذين احتضنتهم منذ فترة طويلة وعلى رأسهم الشيخ يوسف القرضاوي في الوقت الذي رأت السعودية في صعود الإخوان خطراً وجودياً على نظامها وانحازت تماما لصالح الجيش. وقد أدّى هذا الصراع بين قطر والسعودية إلى فتور الربيع العربي برمته. إن الربيع العربي كان بالنسبة لقطر والإخوان وسيلة وليس هدفاً بحد ذاته. إن شباب مصر الثوريين المطالبين بالديمقراطية والعدالة الاجتماعية أصبحوا خطراً على حكم الإخوان الذين تحالفوا مع الجيش للقضاء على الحركة الثورية. فيما بعد وكردّ فعل خاطئ لذلك ضيّع الشباب الثوري طريقه حتى تحالف هو مع الجيش ضد الإخوان في التمهيد لانقلاب السيسي تموز 2013 وذلك بتمويل سعودي وإماراتي ودعم الانقلاب العسكري الذي في دوره زج الإخوان والشباب الثوري معاً في السجون.
وقد امتد هذا الصراع المدمر بين قطر والسعودية إلى الساحة السورية وباسم إسقاط النظام الفاشي ومحاربة إيران تم القضاء على الثورة وعلى الجيش الحر من قبل الميليشيات الجهادية المدعومة من قبل السعودية وقطر. وإذا كان الخيار في مصر بين الجيش وبين الإخوان على حساب الشباب الثوري ففي سورية كان الخيار بين زهران ومحمد علوش وبين محمد الجولاني أو بين جيش الإسلام وبين جبهة النصرة – التنظيمان اللذان يتحاربان ويتنافسان على السيطرة على الأرض ويتفاوضان مع النظام والروس والإيرانيين على تقسيم مناطق النفوذ بما عرف كمؤتمر أستانا. وقد قامت السعودية بالانقلاب على المجلس الوطني السوري الذي تشكل مع بداية الثورة وحظي -كيف لا- بدعم من قطر، لتشكل الائتلاف لقوى المعارضة السورية ومن بعده “هيئة الرياض التفاوضية” التي ضيّعت طريقها بين أستانا وجنيف.
وإذا كانت قطر على حق بأن الإخوان المسلمين ليسوا منظمة إرهابية وحق حماس بالمقاومة حق مشروع إلّا أن شعار “الإسلام هو الحل” ليس حلاً بل مصدراً للانشقاق والنزاعات الطائفية. إن قطر لا تكتفي بدعم حماس في مقاومتها لإسرائيل بل هي تدعم حماس في مقاومة السلطة الفلسطينية أيضاً وقد أدّى هذا الدعم إلى تعميق الانقسام الفلسطيني من ناحية بل ودفع حماس إلى المغامرات العسكرية ضد إسرائيل الأمر الذي انتهى بكارثة على أهل غزة، وتم تصويرها على شاشة الجزيرة كانتصارات باهرة على إسرائيل.
وما نراه اليوم من صراع بين السعودية وإيران، وبين السعودية وقطر ليس سوى ثمرة السياسات المدمرة لكل من السعودية وقطر على حد سواء. فلا نرى فرقا كبيراً بين دعم السعودية لابن لادن في حربه ضد السوفييت في أفغانستان أو الرفض القطري بتسمية أحداث 11 سبتمبر في نيو يورك عملاً إرهابياً الذي جلب الدمار للعراق وفي نهاية الأمر أدّى إلى تفكك العالم العربي برمته. إن إيران، والسعودية وقطر هي بمثابة العدو للربيع العربي ولطموحات الشعوب وخاصة الشباب بإقامة نظام ليبرالي ديمقراطي. إن آل سعود وآل ثاني يسعيان إلى الحفاظ على نظاميهما، فسادهما وثروتيهما ولكن بطرق مختلفة. آل ثاني في قطر ينظرون إلى المستقبل ويراهنون على الإخوان المسلمين وجبهة النصرة، بينما آل سعود في السعودية ينظرون إلى الخلف ويراهنون على السيسي، خليفة حفتر، الأحزاب السلفية وجيش الإسلام.
ومن هنا لا يمكن لإنسان يدعو للديمقراطية والعدالة لاجتماعية أن ينحاز لصالح أحد الأطراف المتصارعة بل عليه أن يدعو إلى إسقاط كلا النظامين آل سعود وآل ثاني في آن. لربما هذا الصراع الاستثنائي يبشّر ببداية النهاية لهذه الأنظمة التي تنظر للمستقبل بقلق شديد. إن قناة الجزيرة و11,000 جندي أمريكي لا يمكن أن يضمنوا وجود إمارة تتصرف كقوة إقليمية عظمى في حين هبوط أسعار النفط واستبداله بطاقة متجددة حديثة يبّشر بنهاية حقبة تاريخية وبداية حقبة تاريخية جديدة، والصراع الدائر داخل الخليج ليس سوى دليل على أن وقت الملكيات الشاذة قد ولى.
اترك تعليقاً
يجب أنت تكون مسجل الدخول لتضيف تعليقاً.