وفاة محمد مرسي، اول رئيس منتخب ديموقراطيا في تاريخ مصر، هو بلا شك حدث ذو مغزى تاريخي كون الانتخاب الديمقراطي والشفافية في مصر شيء لم يحدث في تاريخها وتاريخ غالبية الدول العربية من قبل. وفاة مرسي هي مثابة شهادة وفاة للديموقراطية المصرية التي عاشت لمدة سنة فقط ولكن تأثيرها على الشعوب العربية سيبقى الى الابد. ان التجربة الديمقراطية المصرية، اسباب نجاحها وفشلها، تعود لتنتعش في السودان وفي الجزائر. واذا تجنبت الجزائر موجة الربيع العربي ومثلها السودان، فما يحدث اليوم من حراك ثوري ديمقراطي يدل على ان من لوّن الربيع العربي بالأخضر، ليشوه صورته وليبرر دعمه للأنظمة الديكتاتورية، اخطأ عمدا ويقف اليوم عاريا امام الحركة الثورية التي تأبى الموت في الجزائر والسودان.
فالسودان عانى من حكم ديكتاتوري جاء بانقلاب عسكري مدعوم من الاخوان المسلمين اما الجزائر فتنتفض ضد نظام يحكمه الفساد والعسكر مما يدل ان لون الربيع ليس اخضر ولا احمر بل لون الشعب الطامح الى الحرية والديموقراطية التي تحتضن كل الالوان، الاطياف، الاديان والاجناس. ومن هذه الناحية فيجب ان نرى بإنتخاب محمد مرسي عام 2012 اهم مكسب للديمقراطية في العالم العربي والاطاحة به لم تكن بسبب ميوله الدينية بل لأنه انتخب بشكل ديمقراطي من قبل الشعب المصري. ان ما أراده من قاموا بالانقلاب عليه كان وأد الديمقراطية وهي في المهد من اجل منع انتشارها على نطاق العالم العربي. فالإخوان المسلمين تحالفوا مع الانظمة وهم شركاء لها، هكذا حدث في السودان، المغرب، الاردن وحتى في فترة نظام مبارك ومن هنا ليست حركة الاخوان المسلمين هي المستهدفة بل الديمقراطية كقيمة، نظاما ومبدأ.
ولم تكن حركة الاخوان المسلمين من بادر للربيع العربي لكنها كانت من استفاد منه، اذا كان في تونس او في مصر. فالمحرك للثورة الديمقراطية في العالم العربي كان الشباب المثقف، الطبقة المهنية التي انسدت كل الافاق امامها بسبب الفساد، التخلف، والطبيعة الطفيلية للجيش الذي يسيطر على مفاصل الاقتصاد والموارد الوطنية. ان الشريحة المثقفة العربية انفتحت على العالم من خلال المنصات الرقمية وانتزعت من ايدي الانظمة الاحتكار على المعلومات وكسرت الرقابة على حرية التعبير عن الرأي. وأصبح ميدان التحرير في القاهرة رمزًا ليس للشباب العربي فقط بل للعالم كله لأنه ألهم الشباب ، من اوروبا الى أمريكا في انتفاضتهم ضد النظام الرأسمالي الظالم الذي يخدم نسبة قليلة جدا من الاغنياء على حساب اغلبية الشعب. ورغم نجاحها في الاطاحة بالنظام لم يكن بيد الشريحة المثقفة من الشباب الثوري برنامج واطار سياسي متفق عليه لكي يكون البديل السياسي الديمقراطي الثوري. ففي اخر المطاف تنافست قوتان على السلطة، النظام القديم المتمثل بالجيش من ناحية والاخوان المسلمين من ناحية اخرى.
ان الخطأ الكبير التي ارتكبه كل من شباب ثورة 25 يناير من ناحية والاخوان المسلمين من ناحية ثانية كان اعتمادهما على الجيش كل بطريقته. ان الشعار “الشعب والجيش يد واحدة” الذي رفعه المعتصمون في ميدان التحرير عندما اعلن عن تنحي مبارك عن السلطة سمح لهم في الفترة الأولى تجنب الصدام مع الجيش لكنه في المقابل منح الجيش شرعية وبدا كمنقذ وحاكم البلاد مما جعله القوة الرئيسية التي تلعب دور الوسيط بين قطبي الثورة، الاخوان من جهة والثوار من جهة ثانية. ان انحياز الاخوان المسلمين لصالح الجيش وتعيين عبد الفتاح السيسي وزيرا للدفاع كان مثابة اعلان الطلاق من شباب ميدان التحرير الذين ردوا بتشكيل حركة “تمرد” وبتواطؤ مع الجيش انقلبوا على مرسي.
الجيش المصري بقيادة الجنرال السيسي استفاد من هذه التناقضات فبعد القضاء على الاخوان وحكمهم بانقلابه توجه لقمع الشباب الديمقراطي الذين تم حبس العديد من قيادتهم في السجون. الثورة المصرية دفعت ثمن غال نتيجة للضعف السياسي للقوى الثورية من ناحية وطبيعة الاخوان المسلمين الانتهازية التي لا مبدأ لها سوى الاستيلاء على السلطة بكل الوسائل، وحركة حماس هي اكبر دليل على ذلك.
الا ان التجربة المصرية اصبحت عبرة للشعوب وتحديدا في الجزائر وفي السودان. ففي الجزائر يتظاهر الشعب بطلب واضح جدا، ليعود الجيش الى ثكناته ويصرخ “لا نريد اعادة التجربة المصرية”. وقد كشفت الثورة المصرية طبيعة مؤسسة الجيش في العالم العربي والتي ترسخت في الحكم ليس لحماية الوطن بل من اجل حماية مصالحها الاقتصادية. في الواقع لم يكن الجيش لوحده في عملية القضاء على الثورة فكان له سندا قويا جدا من دول الخليج وتحديدا السعودية ودولة الامارات، إذ يمول المال الخليجي السعودي، الإماراتي والقطري الأنظمة او القوى الجهادية ويغذي بذلك الحروب الاهلية في العديد من البلدان العربية. قطر انحازت الى الاخوان المسلمين في غزة وليبيا، بينما السعودية والامارات تدعم نظام السيسي، وخليفة حفتر في ليبيا والجيش السوداني وتحديدا قائد وحدات الدعم السريع محمد حمدان دقلو (حميدتي) ضد القوى الديمقراطية التي تطالب بإنشاء حكومة ونظام مدني.
في سوريا قامت الدول الخليجية بتمويل وتسليح المجموعات الاسلامية والسلفية التي قضت على الشباب الثوري السوري وعلى التنسيقيات من خلال تسليح وتمويل الجماعات الاسلامية التي خانت الشعب السوري ومنحت للنظام الحجة ليقوم مع حلفائه من الايرانيين والروس بأكبر مذبحة في تاريخ العرب المعاصر.
واليوم ونحن امام موجة ثانية من الربيع العربي في الجزائر والسودان قد اصبحت ثورة 25 يناير والتجربة السورية درسان تاريخيان هاما يهدي الطريق للثوار الجزائريين والسودانيين. ان العبرة الاولى هي عدم الثقة بالجيش. فبعد الاطاحة بعبد العزيز بوتفليقة وبعمر البشير طرح الجيش في كلا البلدين نفسه كبديل ديمقراطي وحاول ان يستولي على السلطة بعد ان تمكن الثوار بحركتهم الجماهيرية ومظاهرتهم الضخمة من نزع الشرعية عن النظام القديم. اما العبرة الثانية فهي العبرة السورية التي اثبتت ان السلاح هو عدو الثورة ولا يحميها من بطش النظام. ففي السودان تنادي القوى الثورية الى العصيان المدني ونشر المتاريس في الاحياء ولكن دون اللجوء للعنف بل تجنبه وذلك لسحب كل ذريعة امام الجيش لذبح ابناء الشعب الاعزل. اما العبرة الثالثة هي عدم الاعتماد على الدعم الخليجي الذي يهدف الى اجهاض الثورة والديمقراطية التي اصبحت اكبر عدو لممالك الفساد والقمع الخليجية.
ولا يمكن فصل ما يجري في مصر، ليبيا، الجزائر والسودان عما يحدث في الولايات المتحدة والدعم التي تحظى به هذه الانظمة الفاسدة الديكتاتورية من الرئيس ترامب. وقد تساءلت رئيسة كتلة الاغلبية الديمقراطية في الكونغرس الامريكي نانسي بيلوسي عن ماهية العلاقة بين ترامب والسعودية، لماذا كانت اول زيارة له للخارج في السعودية تحديدا؟ لماذا تجاهل ترامب اغتيال الخاشقجي، لماذا يسكت على الجرائم ضد الانسانية التي تقوم بها السعودية في اليمن، لماذا يدعم خليفة حفتر؟ وكيف ربط الدول الخليجية لدعم صفقة القرن التي تقضي نهائيا على القضية الفلسطينية؟
وقد شخصت القوى الديمقراطية في امريكا السعودية والامارات كأكبر عدو لها. فالتدخل السعودي لا يتوقف في حدود مصر، ليبيا والسودان بل يمتد الى امريكا نفسها إذ ان الاموال الخليجية لا تمول الديكتاتوريات في العالم العربي فقط بل تمول ايضا ترامب وتعمل على تشويش النظام الديمقراطي في امريكا نفسها. ومن هنا ما يحدث في مصر من انتهاكات لحقوق الانسان وما يحدث في السعودية من ملاحقة النساء والمعارضين، وما يحدث في السودان من قتل وقمع وحشي للشعب اصبح موضوعا امريكيا داخليا. فنجاح السعودية وحلفائها يعتبر نجاحًا لترامب اما هزيمتها فهي ضربة لترامب وكل ما يمثله من عنصرية، واستهتارا بالقيم الديمقراطية.
لذلك نرى بان الموقف من حادث وفاة الرئيس المصري السابق محمد مرسي يجب ان يأخذ بعين الاعتبار الصراع المصيري الدائر في العالم اليوم بين قوى الظلام والعنصرية المتمثلة بترامب، نتانياهو، بوتين وحلفائهم العرب وبين قوى الحرية، الدمقراطية والتضامن الاممي في العالم العربي وامريكا وشتى انحاء العالم. فمهما كان الخلاف مع مرسي لا بد لنا كثوار ديمقراطيين بان نصرخ بصوت عال ضد الممارسات الوحشية التي يتعرض لها كل من يعارض نظام السيسي الاستبدادي والتي كانت نتيجتها انهيار صحة الرئيس الأسبق ووفاته بجيل 67 فقط. كما علينا ان نسجل بانه تجربة الانتخابات الديمقراطية عام 2012 التي افرزت فوز الرئيس مرسي كانت اهم تجربة ديمقراطية ولا تزال تشكل النموذج لكافة الشعوب العربية بإدارة شؤونها من خلال الاعتراف بالتعددية الفكرية والسياسية التي تشكل ركنا لا بد منه من اجل بناء مجتمع عصري.
اترك تعليقاً
يجب أنت تكون مسجل الدخول لتضيف تعليقاً.